قلتُ: فتأمَّل -أرشَدَك الله- مَدى تناقُض القَوْم المتَبجّحينَ بمعرفةِ المَعقولِ، المُجانبين لِما جاءَ به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-.
تنبيه:
تَرى في بعضِ نُصوصِ الأشعريةِ المَذكورة قَريبًا وغَيرِها، تَنْزيههم القرآنَ الذي هو كلامُ الله عن الحُلولِ في المُصْحَف، ولو طلبْتَ تفسيرَ الحُلولِ في كَلامهم وجَدْتهم يريدونَ تنزيهَ كلامِ الله تعالى الذي هو صفتهُ عن الكَوْنِ في الورَق، لأنَّ هذا بزَعْمِهم بَيْنونَةٌ للصِّفَة عن المَوْصوفِ ومُفارَقةٌ له، فيَرَوْن أنَّهم إنْ أقرّوا بأنَّ كلامَ الله على الحقيقةِ في المُصْحَف أبَطلوا أنْ تكونَ لله تعالى صفةُ الكَلام، لأنَّ كلامَهُ حينئذٍ يَنْتَقِلُ ويَحُلُّ في الوَرَق.
وهذا منهم جَهْلٌ بحقيقةِ الأمْرِ، فإنَّ نقلَ الكلام ليسَ كنَقْل الحَجَر والصَّخْر، فنقلُ الحَجَر والصَّخْر يزيلُهُ عن مَوْضعهِ إلى المَوْضِع الذي نُقِلَ إليه، بخلافِ الكَلام، فهذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يُحَدِّثُ أصحابَه بالسُّنَن والشَّرائع، وأصحابُهُ يَحْفَظونَ ذلك وينقلونه عنه، فهَل ما علَّمهم من قوله -صلى الله عليه وسلم- وَحَفِظُوُهُ زالَ عنه وفارقَه؟ لا يَعْقِلُ هذا عاقلٌ، وإلَّا كانَ ما يتكلَّمُ به المتكلِّم لا يَقْدِرُ أن يتكلَّمَ به أكثر مِن مَرَّة، وإن قُلْنا: فارَقَتْه صفةُ الكَلام وانتقلَتْ إلى غيرهِ بسمَاع ذلك الغَيْر هذا الكلامِ وحِفْظِهِ له، لَما صَحَّ أن يبقى وصفُ الكلام لازمًا له، ولعادَ أبْكَمَ بعدَ تكلُّمِهِ مرَّةً، وهذا غيرُ مَعقولٍ ولا مُتَصَوَّر.