ولكن الأوصاف التي أوردها كل من العياشي والثعالبي له صحيحة في نظرنا لأنها تنطبق تماما مع ما عرفنا عنه من كتاباته. وعبارة العياشي في ذلك أن الفكون كان منقبضا، منزويا عن الناس، مترددا على الحرمين الشريفين رغم كبر السن. وعبارة الثعالبي في ذلك أطول وأوضح وهي: جمع الله له بين العلم والعمل إلى كمال الزهد والورع والتعفف عن الناس، وعدم التأثر بكلام الناس حتى استوى عنده المدح والذم، مع المجانبة للطلبة (العلماء) وأهل الولايات الدنيوية وقلة المبالاة بهم وعدم الاهتمام بما يهدى إليه. بل يضيف الثعالبي قوله فيه أنه (انجمع بآخره عن الناس ولزم العزلة والعكوف على العبادة وتهذيب النفس)(١) وقد مر بنا أن الثعالبي حكى عن شيخه أنه لم يكترث بوالي مصر وعلمائها وأعيانها عندما خرجوا لملاقاته ومهاداته والتبرك به (فما استفزه شيء من ذلك، ولا اكترث به ولم يقبل منه (أي من الباشا) دينارا ولا درهما).
وكان الفكون لا ينكر التصوف، ولكن يرى أن أهل عصره انحدروا به إلى الدرك الأقل وأساؤوا فهمه، وحولوه إلى (حضرة) فيها الرقص والموسيقى والإنشاد وغيرها من البدع والمنكرات، كما استغلوه في سلب العامة أموالها وتخدير عقولها وتعطيل الأعمال التي أمر الله بها، ومن ثمة الوهن الذي أصاب المسلمين. ولذلك كان يكثر من الاستشهاد من آثار المتصوفة الأقدمين كالبسطامي والطرطوشي وإبراهيم الشاطبي والغزالي
(١) عيسى الثعالبي (كنزة الرواة)، ص ٣٠٠، مخطوط خاص.