عن المصدر الثاني وهو الاجتهاد النبوي تارة تعبيرًا عن إلهام إلهي، أي أن الرسول إذا أخذ في الإجهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه، وتارة استنباطًا واستمدادا للحكم بما تهدي إليه المصلحة وروح التشريع، والأحكام الاجتهادية التي يلهم الله بها الرسول هي أحكام إلهية ليس للرسول فيها إلا التعبير عنها بقوله أو فعله، والأحكام الاجتهادية التي لم يلهم الله بها الرسول بل صدرت عن بحثه، ونظره هي أحكام نبوية بمعانيها وعباراتها، وهذه لا يقره الله عليها إلا إذا كانت صوابا، وأما إذا لم يوفق الرسول فيها إلى الصواب فإن الله يرده إلى الصواب، ومثال ذلك حادث افتداء أسرى بدر، فإن المسلمين في غزوة بدر وقع في أيديهم سبعون أسيرًا من المشركين، ولم يكن قد شرع حكم الأسرى فاجتهد الرسول فيما يفعل بهم واستشار بعض الصحابة، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية ممن يفتدي منهم وبين وجهة نظره بقوله للرسول:"قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي أصحابك". وأشار عمر بأن لا يقبل منهم فدية وأن يقتلوا. وبين وجهة نظره بقوله للرسول:"كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم هؤلاء أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء". وقد أدى اجتهاد الرسول إلى قبول الفداء فبين الله له الصواب بقوله سبحانه:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ومثاله أيضا حادث إذن الرسول لمن اعتذروا وتخلفوا عن عزوة تبوك، فإن الله سبحانه بين له الصواب بقوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .
فمن هذا ينتج أن التشريع في عهد الرسول كان إلهيًّا كله؛ لأن مصدره إما وحي الله في القرآن، وإما اجتهاد الرسول الذي هو تعبير عن إلهام إلهي، وإما اجتهاد الرسول ببحثه ونظره ولكنه ملحوظ برعاية الله له، فإن جاء صوابا أقره الله عليه، وإن جاء غير صواب رد الله رسوله إلى الصواب فيه.
ولا سبيل إلى التمييز بين حكم اجتهادي نبوي لم يصدر عن إلهام إلهي، وحكم اجتهادي نبوي صدر عن إلهام إلهي إلا أن ما رد الله رسوله فيه إلى الصواب يعلم أنه ما كان عن إلهام، وما بين الرسول به مجملا في القرآن يعلم أنه من الله بينه.