الصحابة واطمأنوا إلى عدالتهم، وضبطهم، وعلمهم، وفقههم، فرجعوا إليهم يسألهم الولاة والقضاة في الأقضية والخصومات، ويستفتيهم الأفراد في وقائعهم وما يطرأ لهم من الحاجات، وكانت كل طبقة ترث من سلفها العلم والثقة، واطمئنان المسلمين إلى بيانهم النصوص وفتاويهم فيما لا نص فيه.
وكان أكثر رجال التشريع في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم الشرعية ورواية الحديث، ومنهم ولي القضاء مثل: شريح، والشعبي، وأبي يوسف. ومنهم من كان يتجر، كأبي حنيفة، فلم يكن الإفتاء وظيفة ينقطع لها المفتي وإنما كان واجبا يتصدى للقيام به من آنس في نفسه القدرة على أدائه مع اشتغاله بوظيفته أو تجارته أو دراسته.
مصادر التشريع في هذا العهد:
كانت مصادر التشريع في هذا العهد أربعة: القرآن، والسنة، والإجماع، والاجتهاد بالقياس أو بأي طريق من طرق الاستنباط. فكان المفتي إذا وجد نصا في القرآن أو السنة يدل على حكم ما استفتي فيه، وقف عند النص ولا يتعدى حكمه، وإذا لم يجد في الواقعة نصا ووجد سلفه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة على حكم، وقف عنده وأفتى به، وإذا لم يجد نصا على حكم الواقعة ولا إجماعا على حكم فيها، اجتهد واستنبط الحكم بالطرق التي أرشد إليها الشارع للاستنباط.
ما طرأ على مصادر التشريع:
وقد طرأ على المصدر التشريعي الأول، وهو القرآن، في هذا العهد طارئان لهما أثرهما في حفظه، وضبطه وصونه من أي تحريف.
الأول: عناية طائفة من المسلمين بحفظه، جميعه وتصديهم لتلقي الحفاظ عنهم، وأشهر هؤلاء القراء السبعة الذين اشتهروا بالحفظ والضبط والإتقان، وما انقرضوا في القرن الثاني الهجري إلا وقد خلفهم في الحفظ والضبط تلاميذهم، وخلف هؤلاء تلاميذهم واتصل سند الحفاظ الذين تنافسوا في الضبط وساعدوا على ازدياد حفظة القرآن والتنافس في حفظه. إن تلاوته عبادة وإنه يتلى كل صلاة.