الشعبي. فلما آلت السلطة التشريعية في أواسط القرن الهجري الثاني إلى طبقة الأئمة المجتهدين، أبي حنيفة، وأقرانه، وأصحابه، ومالك وأقرانه وأصحابه، كانت قد تكونت عدة آراء في خطة التشريع وطرأت جملة عوامل جعلت من رجال التشريع أحزابًا كل حزب له مذهب تشريعي يختلف عن مذاهب الآخرين في أحكامه، وفي طرق استنباطه وفي بعض مبادئه العامة، ومن هذا تعددت الخطط التشريعية لرجال التشريع، وتكونت المذاهب الفقهية.
أسباب اختلاف الأئمة المجتهدين وتكون المذاهب:
بينا أنه في عهد الرسول لم يقع اختلاف في حكم الواقعة؛ لأن المرجع التشريعي واحد، وأنه في عهد الصحابة لما تعدد رجال التشريع منهم وقع بينهم اختلاف في بعض الأحكام، وصدرت عنهم في الواقعة الواحدة فتاوى مختلفة، وأن هذا الاختلاف كان لا بد أن يقع بينهم؛ لأن المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر؛ ولأن السنة لم يكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربما وقف بعضهم منها على ما لم يقف عليه الآخر؛ لأن المصالح التي تستنبط لأجلها الأحكام يختلف تقديرها باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الأسباب اختلفت فتاويهم وأحكامهم في بعض الوقائع والأقضية مع اتفاقهم على مصادر التشريع، وترتيب رجوعهم إليها والمبادئ التشريعية العامة. أي أنهم اختلفوا في الفروع فقط. ولم يختلفوا في أصول التشريع، ولا في خطته، ولكن لما آلت السلطة التشريعية في القرن الثاني الهجري إلى طبقة الأئمة المجتهدين اتسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب اختلافهم عند الأسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة، بل جاوزتها إلى أسباب تتصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعية وبالمبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص، وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان اختلافًا أيضا في اسس التشريع وخططه، وصار لكل فريق منهم مذهب خاص يتكون من أحكام فرعية استنبطت بخطة تشريعية خاصة.
ويرجع اختلاف الخطة التشريعية للأئمة المجتهدين إلى اختلافهم في أمور ثلاثة: الأول: في تقدير بعض المصادر التشريعية. والثاني: في النزعة التشريعية. والثالث: في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص.