للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فأما اختلافهم في تقدير بعض مصادر التشريع فقد ظهر فيما يأتي:

أولًا: في طريق الوثوق بالسنة والميزان الذي ترجع به رواية عن رواية، وذلك أن الوثوق بالسنة مبني على الوثوق برواتها وكيفية روايتها، وقد اختلف الأئمة في طريق هذا الوثوق فمجتهدو العراق -أبو حنيفة وأصحابه- يحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة، ويرجحون ما يروي الثقات من الفقهاء، ولهذا قال أبو يوسف: "وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء"، ومجتهدو المدينة مالك وأصحابه يرجحون ما عليه أهل المدينة بدون اختلاف ويتركون ما خالفه من أخبار الآحاد، وباقي الأئمة يحتجون بما رواه العدول الثقات من الفقهاء وغير الفقهاء، وافق عمل أهل المدينة أو خالفه.

وترتب على هذا أن مجتهدي العراق جعلوا المشهور في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه، وغيرهم لم يجعلوا له هذه القوة، وترتب أيضا أن الحديث المرسل هو: ما رواه الصحابي بقوله: أمر رسول الله بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا، من غير أن يصرح بأنه سمع ذلك بنفسه أو شافهه أو شاهده، يحتج به بعض رجال التشريع ولا يحتج به بعضهم. فهذا الاختلاف في طريق الوثوق بالسنة أدى إلى أن بعضهم احتج بسنة لم يحتج بها الآخر، وبعضهم رجح سنة هي مرجوحة عند الآخر، وعن هذا نشأ اختلاف الأحكام.

وثانيا: في فتاوى الصحابة وتقديرها، فإن الأئمة اختلفوا في الفتاوى الاجتهادية التي صدرت عن أفراد الصحابة، فأبو حنيفة -ومن تابعه- خطته بالنسبة إليها: أن يأخذ بأية فتوى منها، ولا يتقيد بواحدة معينة ولا يخرج عنها جميعًا، والشافعي -ومن تابعه- خطته بالنسبة إليها أنها فتاوى اجتهادية فردية صادرة من غير معصومين فله أن يأخذ بأية فتوى منها، وله أن يفتي بخلافها كلها. وعن هذا نشأ أيضا اختلاف في الأحكام.

وثالثا: في القياس. فإن بعض المجتهدين من: الشيعة، والظاهرية أنكروا الاحتجاج بالقياس، ونفوا أن يكون مصدرا للتشريع ولهذا سموا: نفاة القياس.

وجمهور الأئمة احتجوا بالقياس، وعدوه المصدر التشريعي بعد القرآن والسنة والإجماع، ولكنهم مع اتفاقهم على أنه حجة اختلفوا فيما يصلح أن يكون علة للحكم ويبني عليه القياس، ونشأ عن هذا أيضا اختلاف في الأحكام.

<<  <   >  >>