وأما اختلافهم في النزعة التشريعية؛ فقد ظهر في انقسامهم إلى فريق أهل الحديث، ومنهم أكثر مجتهدي الحجاز، وفريق أهل الرأي، ومنهم أكثر مجتهدي العراق، وليس معنى هذا الانقسام أن فقهاء العراق لا يصدرون في تشريعهم عن الحديث؛ وأن فقهاء الحجاز لا يصدرون في تشريعهم عن الاجتهاد بالرأي؛ لأنهم جميعا متفقون على أن الحديث حجة شرعية ملزمة، وأن الاجتهاد بالرأي، أي القياس، حجة شرعية فيما لا نص فيه.
وإنما معنى هذا الانقسام وسبب هذه التسمية أن فقهاء العراق أمعنوا النظر في مقاصد الشارع، وفي الأسس التي بنى عليها التشريع، فاقتنعوا بأن الأحكام الشرعية معقول معناها، ومقصود بها تحقيق مصالح الناس، وبأنها تعتمد على مبادئ واحدة، وترمي إلى غاية واحدة، وهي لهذا لا بد أن تكون متسقة ولا تعارض ولا تباين بين نصوصها وأحكامها، وعلى هذا الأساس يفهمون النصوص، ويرجحون نصا على نص ويستنبطون فيما لا نص فيه، ولو أدى استنباطهم على هذا الأساس إلى صرف نص عن ظاهره، أو ترجيح نص على آخر أقوى منه رواية، حسب الظاهر، وهم من أجل هذا لا يتحرجون من السعة في الاجتهاد بالرأي، ويجعلون له مجالا في أكثر بحوثهم التشريعية.
وأما فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الأحاديث وفتاوى الصحابة، واتجهوا في تشريعهم إلى فهم هذه الآثار حسبما تدل عليه عبارتها، وتطبيقها على ما يحدث من الحوادث غير باحثين في علل الأحكام ومبادئها؛ فإذا وجدوا ما فهموه من النص لا يتفق مع ما يقتضيه العقل لم يبالوا بهذا، وقالوا: هو النص. وكانوا من أجل هذا يتحرجون من الاجتهاد بالرأي، ولا يلجأون إليه إلا عند الضرورة القصوى.
مثلا: ورد في الحديث أن في كل أربعين شاة شاة، وأن صدقة الفطر صاع من تمر أو شعير، وأن من رد الشاة المصراة بعد احتلاب لبنها رد صاعا من تمر.
فقهاء العراق يفهمون هذه النصوص على ضوء معناها المعقول ومقصد الشارع من تشريعها؛ وهو أن المالك أربعين شاة يجب عليه أن ينفع الفقراء بواحدة أو ما يعادلها، وأن المتصدق بصدقة الفطر يجب عليه أن ينفعهم بصاع من تمر أو ما يعادله، واللبن المحتلب يضمن بمثله أو قيمته.