وليس خصوص الشاة أو الصاع مقصودا للشارع، فمن زكى بقيمة الشاة أو تصدق بقيمة الصاع، أو ضمن لبن المصراة بقيمته أجزأه؛ لأن المقصود نفع الفقراء، وتعويض المال المتلف.
وأما فقهاء الحجاز فيفهمون هذه النصوص حسبما تدل عليه عبارتها الظاهرة، ولا يبحثون في علة التشريع، ولا يتجهون إلى التأويل بناء على مراعاة العلل المعقولة، وعلى هذا يوجبون الشاة بخصوصها، والصاع بخصوصه، ولا تجزئ في مذهبهم القيمة.
وأهم الأسباب التي أدت إلى اختلاف هاتين النزعتين هي:
١- أن الأحاديث وفتاوى الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز، فالحجازيون وجدوا عندهم ثروة من الآثار اعتمدوا عليها في تشريعهم، وركنوا إليها، وأما فقهاء العراق فلم تكن لديهم هذه الثروة، فاعتمدوا على عقولهم، واجتهدوا في تفهم معقول النص وعلة التشريع لتتسع معاني النصوص لما لم تتسع له ألفاظها، وأسوتهم في هذا أستاذهم عبد الله بن مسعود.
٢- إن العراق كانت فيها الفتن التي أدت إلى افتراء الأحاديث وتحريفها؛ لأنها كانت مهد الشيعة ومقر الخوارج، وقد شاهد فقهاء العراق من الجرأة على وضع الأحاديث والتحريف فيها ما لم يشاهده فقهاء الحجاز، فلهذا تشددوا في قبول الرواية والتزموا أن يكون الحديث مشهورا بين أهل الفقه، وإذا وجدوا حديثًا يفهم منه ما لا يتفق، وحكمة الشارع أولوه أو تركوه.
٣- أن بيئة العراق غير بيئة الحجاز، والأقضية والحوادث في البلدين مختلفة؛ لأن دولة الفرس خلفت في العراق أنواعًا من المعاملات والعادات والنظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجاز، فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة وأفق البحث ممتدا، ولهذا تكونت في فقهاء العراق ملكة البحث، والتفكير وبدت لهم وجوه عديدة من الرأي والنظر في التشريع، وأما فقهاء الحجاز فقلما حدث لهم ما لم يحدث لسلفهم من التابعين أو الصحابة؛ لأن البيئة واحدة، وقلما حدث لهم ما لم يحفظوا في حكمه حديثا أو فتوى صحابي، فلما لم يجدوا للاجتهاد المجال الذي وجده العراقيون اعتادوا فهم النصوص على ظواهرها، ولم تدعهم حاجة إلى البحث في عللها أو التعمق في مقاصدها.