وأما اختلافهم في بعض المبادئ الأصولية اللغوية: فقد نشأ من اختلاف وجهات النظر في استقراء الأساليب العربية. فمنهم من رأى أن النص حجة على ثبوت حكمه في منطوقه، وعلى ثبوت خلاف حكمه في مفهومه المخالف، ومنهم من لم ير هذا. ومنهم من رأى أن العام الذي لم يخصص قطعي في تناول جميع أفراده، ومنهم من رأى أنه ظني. ومنهم من رأى المطلق يحمل على المقيد عند اتحاد الحكم ولو اختلف السبب، ومنهم من رأى أنه لا يحمل عليه إلا عند اتحاد الحكم والسبب. ومنهم من رأى أن الأمر المطلق للإيجاب ولا يصرف عنه إلا بقرينة، ومنهم من رأى أنه مجرد أنه طلب الفعل. والقرينة هي التي تعين الإيجاب أو غيره، إلى غير ذلك من المبادئ الأصولية التي تفرع على اختلافهم فيها كثير من الأحكام.
فالخطة التشريعية لكل مجتهد في هذا العهد كانت قائمة على طريق ثقته بالسنة، وتقديره لفتاوى الصحابة، ومسلكه في القياس، ونزعته في فهم النصوص وتأويلها وتعليلها، ومبادئه التي سار عليها من استقرائه الأحكام الشرعية والأساليب العربية، وبنى عليها استنباطه.
ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية:
أهم ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية ثلاثة:
الأول: صحاح السنة التي دونت فيه، فبعضها جمعت فيها الأحاديث على طريق المسانيد، وبعضها جمعت فيه الأحاديث حسب أبواب الفقه. وقد تنافس علماء الحديث في الجمع والضبط وتعرف الرواة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
الثاني: تدوين الفقه وأحكامه، وجمع المسائل المرتبطة بموضوع واحد بعضها مع بعض، وتعليل الأحكام والاستدلال عليها؛ لأن الدولة الإسلامية في هذا العهد لما استعت أرجاؤها وزادت حضارتها وجدت فيها أقضية، وحوادث ونظم كانت مجالا فسيحا للاجتهاد والمجتهدين، فاجتهدوا في فهم النصوص، وفي الاستنباط فيما لا نص فيه، وتنافسوا في هذا الاجتهاد، وتأثروا في طرق اجتهادهم وبحثهم بطرق البحث التي ظهرت في بحوث من دخلوا في الإسلام من الأمم غير العربية، وفيما نقل إلى المسلمين من علوم وفنون.