فلهذا لم تكن فتاوى المجتهدين في هذا العهد مجرد فتاوى. بل كانت آراء وبحوثا معللة مؤيدة بالبرهان، وبهذا صار الفقه وأحكامه علما ذا مسائل كلية تطبق على ما وقع وما لم يقع، وكان من أحكامه أحكام لحوادث لم تقع أصلا، ودونت فيها موسوعات لا تزال مرجع المسلمين حتى اليوم؛ ومن أشهر هذه الموسوعات في مذهب الإمام أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الستة التي رواها محمد بن حسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وجمعها كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وفي مذهب الإمام مالك كتاب المدونة التي رواها سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك. وفي مذهب الإمام الشافعي: كتاب الأم الذي أملاه الشافعي على تلاميذه بمصر، وغير ذلك كثير في مذاهب الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين.
٣- تدوين علم أصول الفقه، وذلك أنه لما اتخذ كل مجتهد في هذا العهد خطة تشريعية خاصة، عني بوضع الأصول، والأسس التي بنى عليها خطته واجتهاده، وكان كل مجتهد منهم يثبت مبادئه وأصوله في ثنايا مسائله وأحكامه.
ففي كثير من موضوعات الموطأ أشار الإمام مالك إلى مبادئه وقواعده التشريعية، وكذلك الإمام أبو حنيفة وأصحابه، حتى نقل أن أبا يوسف كتب كتابا مستقلًّا في أصول الفقه. ولكن أول من جمع هذه القواعد مرتبة معللة مقاما على كل قاعدة منها برهانها، هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي في رسالته المشهورة في علم الأصول. ولذا اشتهر أنه واضع علم أصول الفقه، والحقيقة: أنه رتبه، وصاغ قواعده صوغا علميا، ولم يبتدئ وضعه.
وهذه نُبَذ موجزة في ترجمة بعض رءوس الاجتهاد في هذا العهد.
الإمام أبو حنيفة:
هو النعمان بن ثابت، ولد بالكوفة سنة ٨٠هـ، وتوفي ببغداد سنة "١٥٠" هـ قال حفيده إسماعيل بن حماده: نحن من أبناء فارس الأحرار، والله ما وقع علينا رق قط، ذهب جدي ثابت إلى علي وهو صغير فدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته. تلقى أبو حنيفة الفقه عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. وكان أبو حنيفة خزازا بالكوفة١، وقد اشتهر بين الناس بصدق المعاملة
١ الخزاز: هو الذي يبيع الخز وهو الثياب المتخذة من الحرير أو من الحرير المخلوط بالصوف.