للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإعلام المشتري بالثمن الحقيقي وكراهة المماكسة، ولما طلب الفقه على رأس المائة الثانية نبغ فيه نبوغا عظيما، وكان يطرح المسألة على من يحضر من طلاب العلم، ويتناقشون فيها جميعا حتى يستقر الرأي على جواب فيها أو يحتفظ كل برأيه، وبهذا كانت مسائل فقهه لا تتقرر إلا بعد المناظرة والأخذ والرد فيها غالبا.

وكانت خطته في استنباط الأحكام الفقهية ما قال هو نفسه:

إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فلما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله، أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلا قول غيرهم؛ فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، فعلي أن أجتهد كما اجتهدوا.

وقد برع في القياس، والاستحسان وتوسع فيهما، وكذا أصحابه حتى اتسعت بذلك المسائل الفقهية وكثرت كثرة عظيمة جدا، وكانوا كلهم يفترضون صورا لمسائل ويلتمسون لكل صورة جوابا، وبهذا خالفوا سنة من قبلهم، فقد كان أولئك لا ينظرون إلا في أحكام الحوادث التي وقعت بالفعل، ولا يفترضون حوادث ولا رسائل، ولا يفرعون تفريعات لا وجود لها بالفعل، بل كان بعضهم يحجم عن جواب المسألة إذا لم يجد نصا فيها، وبالجملة فقد نشط فقه الرأي على يد أبي حنيفة وأصحابه، ومن كان معه من فقهاء العراق وقضت بذلك الحضارة الجديدة. ومن ناحية الرأي والتماس العلل والأوصاف المناسبة للأحكام أمكن وضع الروابط التي تربط مسائل الشريعة بعضها ببعض، ورد كل طائفة منها إلى أصل تبنى عليه وقواعد تنظمها، حتى أصبح الفقه علما ذا قواعد وأصول بعد أن كان مسائل مبعثرة لا ألفة بينها ولا ارتباط، حتى الذين كانوا يقفون عند المروي من السنة ويهابون التكلم بالرأي، انتهى الأمر بكثير منهم إلى الآخذ بالرأي تحت اسم القياس والمصالح المرسلة، كما يظهر ذلك من مراجعة كتب المذاهب الأربعة وغيرها.

وقدكان لأبي حنيفة أصحاب أجلاء، أخذوا العلم عنه وشاركوه في الرأي والاستنباط، ونمت بهم مسائل مذهبه وكثرت، وقد امتزجت أقوالهم بأقوال إمامهم، وسميت جملة ذلك مذهب أبي حنيفة مع أنها خليط من آرائه وآراء تلاميذه، ولم يفكر أحد منهم في الانفصال من أستاذه، كما انفصل الشافعي عن

<<  <   >  >>