فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الإستحالة ولا التغير في ذاته وإنما يقبل كمالاته وتمامات صورة فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي. وأما من يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه وجهل بقاء النفس وكيفية المعاد فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه. فالجهل إذا هو المخوف إذ هو سبب الخوف. وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن وأختاروا عليه النصب والسهر ورأوا أن الراحة التي تكون من الجهل هي الراحة الحقيقية. وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس والبرء منه خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولما تيقن الحكماء ذلك وأستبصروا فيه وهجموا على حقيقته ووصلوا إلى الروح والراحة منه هانت عليهم أمور الدنيا كلها واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية والمطالب التي تؤدي غليها إذ كانت قليلة الثبات والبقاء سريعة الزوال والفناء كثيرة الهموم إذا وجدت. عظيمة الغموم إذ فقدت. واقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش الذي فيه ما ذكرت من العيوب وما لم أذكره ولأنها مع ذلك بلا نهاية ذلك أن الإنسان إذا بلغ منها إلى غاية تاقت نفسه إلى غاية أخرى منغير وقوف على حد ولا إنتهاء إلى الأمد. وهذا هو الموت لا ما يخاف منه والحرص عليه هو الحرص على الزائل والشغل به هو الشغل بالباطل. ولذلك جزم الحكماء بأن الموت موتان موت إرادي وموت طبيعي.