للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فعلى هذا يَتبيَن بلاغة القُرآن حيث عَبر بـ {مَا} دون (مَن)؛ لأن (مَن) تُحدِّد الشخصية شَخصيةَ عاقِلٍ، وإذا كان غَيرَ عاقِل يُقال: (ما). أمَّا ما يَتَعلَّق بالصِّفات والأعمال فهذه يُعبَّر عنها بـ (ما)، وأنا ضرَبْتُ لكم شاهِدًا قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ} [النساء: ٣] دون مَن طاب.

وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الأرحام جَمْع رَحِم، وهو وِعاء الجنين، والجنينُ محُاط بثَلاثة جُدران: البَطْن، والرَّحِم، والمَشْيَمَة، فالمَشيمة هذا القُمقُمُ الذي فيه الجنين، وهذا القُمقُمُ -سُبحان اللَّه العظيمِ- مادَّة غَريبة لا هي مائِيَّة مَحضَة، ولا جامِدة محضة، ولكنها لَزِجة سَهْلة لأَجْل أن يَتيَسَّر حرَكة الجنين؛ حتى أُمُّه لا تُحِسُّ بالتَّعَب وهو أيضًا لا يَحِسُّ بالتَّعَب؛ فاللَّه عَليم حَكيم جَلَّ وَعَلَا.

وهذه الظُّلُماتُ الثَّلاثُ كما قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: ٦]، وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: ٢١]، يَعنِي: لا يَدخُله أيُّ شيء يُؤذِي هذا الجنينَ لا هَواءٌ ولا غَيرُه.

وقوله تعالى: {مَا فِي الْأَرْحَامِ} مُتعلَّق هذا العِلْم كَونُه ذكَرًا أو أُنثَى، وكذلك ما يَتعَلَّق من صِفات كونُه: سَعيدًا أو شَقيًّا، وكونه عامِلًا عمَلًا صالحًا أو عمَلًا سَيِّئًا، وكونُ رِزْقه واسِعًا أو ضَيقًا، وكون عُمرِه طَويلًا أم قصيرًا؛ فكل هذه تَتَعلَّق بعِلْم الأَجِنَّة، فمِنها شيء لا يُمكِن أن يُعلَم أبدًا، ما يَعلَمه إلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، ومنها ما يُعلَم -كالأَمْر المُشاهَد- بالأَمْر المَحسوس، فهذا يُمكِن أن يُشاهَد ويُوصَل إليه الآنَ؛ ولكن هل يُمكِن أن يَعلَموا أن هذا الجَنينَ ذكَر أم أنثَى قبل أن يُخلَّق؟

الجَوابُ: إلى الآنَ ما وصَلوا إلى ذلك، ولا نَقول: (لا)، بل نَقول: (إلى الآنَ ما وصَلوا)، وقد سمِعْت أن بعضَهم يَستَدِلُّ على أن كَوْنه ذكَرًا أو أُنثَى بنَفْس

<<  <   >  >>