يذرعه»؛ فلا أكاد ألقي عصا التسيار وأحط الرحال من سفر حتى أتهيأ لآخر (١)؛ أطوّف ما أطوّف ثم آوي إلى هذه الغرفة الصغيرة، أجلس بين ركام الكتب أحسب ما كسبته من هذا العناء الطويل، فلا أجدني كسبت إلا صورة في الذاكرة أضمها إلى صورة، وذكرى في النفس أقرنها بذكرى، وصفحة في دفتري أضيفها إلى صفحة؛ أسعد بتدوينها وأسرّ ببقائها، وإن كنت لا أدوّن إلا الأقل مما أراه وأشعر به ولا أذكر إلا التافه مما يمر بي، وإن كنت أعلم أن صور الذاكرة إلى امّحاء وذكريات النفس إلى ضياع وقصص الدفتر إلى السكين والنار، لا يزهّدني ذلك فيها ولا يصرفني عنها، لعلمي أن الحياة نفسها ستموت والوجود سيعدم، ولا يبقى في الوجود إلا الموجد.
* * *
(١) ما أعجب الإنسان! نشر جدّي هذه المقالة وهو في الثامنة والعشرين، وقبلها ببضع سنين ارتحل تلك الرحلة الشهيرة إلى الحجاز (وخبرها في كتابه «من نفحات الحرم»)، ثم ذهب إلى العراق مدرّساً سنة ١٩٣٦ فطوّف في أرجائه؛ من بغداد إلى كركوك في أقصى الشمال إلى البصرة في أقصى الجنوب، ثم انتقل إلى بيروت فأمضى فيها السنة التي صدرت فيها هذه المقالة، ثم عاد إلى دمشق ثم إلى العراق مرة أخرى، ثم قُدِّر له أن يقطع نصف محيط الأرض فيصل إلى أقصى أندونيسيا بعد ذلك بسنوات ... ثم دارت السنون وتغير به الحال حتى صار يستثقل الانتقال من دار في البلد إلى دار، ويرى السفر إلى جدة (وقد استقر به المقام في مكة) سفراً يصرف بالاستعداد له أسبوعاً، وأمضى آخر عشرين سنة من حياته لم يخرج فيها من مكة إلا إلى جدة أو من جدة إلا إلى مكة، رحمه الله (مجاهد).