والسؤال المطروح ليس هو: من منّا لم يحارب نفسه الأمّارة بالسوء؟ بل السؤال هو: من منّا انتصر عليها؟ فحرب الإنسان مع نفسه حرب أزلية، لا تنتهي جولاتها إلا مع الرمق الأخير للإنسان، هذه الحرب تشتد وطأتها كلما زادت الفتن التي يتعرض لها الإنسان، وصغاطر لم يكن متعرضًا لفتنة عظيمة فحسب، بل كانت مكانته الدينية العظمى هي الفتنة بذاتها! ولكي تدرك مدى التضحية العظيمة التي قام بها صغاطر في سبيل اللَّه، فما عليك إلا أن تسأل نفسك سؤالًا بسيطًا: هل أنت على استعداد للتخلي عن وظيفتك إذا ما علمت أن فيها أمرًا يغضب اللَّه سبحانه وتعالى من قريبٍ أو بعيدٍ؟ أترك الإجابة عن هذا السؤال لكل واحدٍ فينا كي يجيب بنفسه على نفسه بكل صدق، أما صاحبنا فلم يستغرق الكثير من الوقت ليقدم استقالته من أعلى وظيفة في سلم الوظائف الرومانية، بل لم يستغرق الكثير من الوقت لكي يقدم روحه الطاهرة للَّه سبحانه وتعالى، فهيا بنا لنسبر أغوار هذا البطل الإسلامي العظيم صغاطر، من خلال حديث عجيبٍ غاية في العجب، رواه الصحابي الجليل أبو سفيان، ليحفظه لنا محمود الذكر والسيرة الإمام البخاري جزاه اللَّه عن المسلمين كل خير. ولكن قبلها ينبغي علينا أن نأخذ لمحة بسيطة عن خلفية هذه القصة، فبعد أن استطاع رسول اللَّه انتزاع صلح الحديبية من بين أنياب مشركي قريش، جاء الوقت لتنفيذ أهم مهمة ملقاة على عاتق المسلمين في كل زمان ومكان، ألا وهي مهمة التبليغ! فما أن عقد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلحَ الحديبية حتى بعث برُسله إلى مختلف أنحاء الأرض، وكان أحد هؤلاء الرسل هو الصحابي الجليل الجميل صاحب الوجه المشرق والذي كان أكثر البشر شبهًا بجبريل عليه السلام (دحية بن خليفة الكلبي) رضي اللَّه عنه وأرضاه، حاملًا رسالة من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلى أعظم إمبراطور على وجه الأرض:(هرقل)! وكان هرقل هو إمبراطور الإمبراطورية الرومانية الشرقية "البيزنطية" التي تقاسم الفرس السيطرة على العالم القديم، وهرقل هو الاسم المختصر لاسمه الكامل (فلافيوس أغسطس هرقل) الذي حكم الإمبراطورية الرومانية منذ ٦١٠ م. وقد كان هرقل في بادئ الأمر رجل دينٍ نصراني من أصولٍ أرمينية يساعد أباه الذي كان واليًا للرومان على "تونس"، فعندما غُلبت الروم من الفرس في القصة المشهورة التي خلدها القرآن، قام أبوه البطريرق (هرقل) بتجهيز ابنه (هرقل بن هرقل) لينقذ الدولة