" فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد"
(سعد بن معاذ الأنصاري)
على الرغم من ذكري للصحابة في بداية هذا الكتاب، إلا أنني رأيت أنه لا يستقيم أبدًا أن أكتب كتابًا عن العظماء من أمة الإسلام من دون أن تكون هذه الفئة البشرية النادرة إحدى النماذج العظيمة التي يجب أن تأخذ بعض حقها في هذا الكتاب، فالأنصار حالة استثنائية من الصحابة، أو بالأصح حالة استثنائية من البشر، فلقد تميز الأنصار بميزة ميَّزتهم عن بني آدم كلِّهم، هذه الميزة هي ميزة "الإيثار"! والإيثار: يعني أن تعطي غيرك كل ما لديك وأنت في أمس الحاجة إليه! ولنستمع إلى قول اللَّه يفسر لنا هذه الخاصية العجيبة للأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)} [الحشر: ٩]، والخصاصة لغة تعني الفقر، فالحقيقة التي تغيب عن كثيرٍ منّا أن الأنصار كانوا فقراء شديدي الفقر، وربما ظنهم البعض أغنياءً من كثرة عطاءاتهم لإخوانهم من المهاجرين، وسرّ فقر الأنصار يكمن في كونهم أصلًا من المهاجرين! فالأنصار جزءٌ من قبيلة "الأزد" اليمانية التي كانت تسكن في اليمن السعيد مستفيدة من الرخاء الإقتصادي الذي كان يوفره لهم سد مأرب، ولكن مع انهيار سد مأرب عام ٥٤٢ م، دخلت اليمن في مرحلة كبيرة من القحط والفقر، فلقد أرسل اللَّه على اليمن سيلًا سُمّي بـ "سيل العَرِم" وهو السيل الذي ذكره اللَّه في القرآن بقوله: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ}[سبأ: ١٦] فهلكت بذلك كل البساتين والكروم والحدائق التي بقي السبئيون يرعونها لعدة قرون، فعانى السبئيون بعد انهيار السد من فترة ركود طويلة