الأندلس، فتوافد اليهود والنصارى المضطهدون للعيش عند المسلمين في قرطبة بكل أمان وحرية، وتقاطر العلماء المسلمون من أرجاء البلدان الإسلامية إليها، فأصبحت قرطبة ثاني أكبر مدينة في العالم من حيث عدد السكان (بعد بغداد حاضرة العباسيين)، وبُني في قرطبة ثلاثة آلاف مسجد، وازدهر العلم، وتطورت فنون البناء، وصُممت الحدائق بأشكال هندسية عجيبة، ولأول مرةً في تاريخ الإنسانية أصبحت قرطبة حاضرة المنصور أول مدينة في العالم تنار كل شوارعها ليلًا، فكانت قرطبة الإسلامية كالجوهرة المضيئة في ظلمات أوروبا الغارقة في الجهل والظلام، فأرسل الأوروبيون البعثات العلمية لبلاد المسلمين، ولأول مرة في أوروبا ظهرت المستشفيات والمكتبات العامة في أرجاء الدولة الإسلامية، وبنى الخليفة عبد الرحمن مدينة "الزهراء"، والتي اعتُبرت أجمل مدينة في العالم، فلقد بناها علماء المسلمون بطريقة عجيبة، وهي مدينة فوق مدينة، سطح الثلث الأعلى على الحد الأوسط، وسطح الثلث الأوسط على الثلث الأسفل، وكل ثلث منها له سور، فكان الحد الأعلى منها قصورًا يعجز الواصفون عن وصفها، والحد الأوسط بساتين وروضات، والحد الأسفل فيه الديار والجامع، وبنيت بمدينة قرطبة القنطرة العجيبة التي فاقت قناطر الدنيا حسنًا وإتقانًا، فكثرت الأموال واتسع نطاق الخدمات، والعلاج المجاني، وانتشر التعليم المجاني، بل إن طالبي العلم كان يُخصص لهم راتب شهري، ولأول مرة في تاريخ الانسانية أدخل المسلمون نظام الرعاية للمسنين، فبنيت دورٌ للعجزة، ووُظّف فيها من يقوم بخدمتهم، وبنيت دورٌ لرعاية الحيوانات، وأقيمت المصانع العسكرية، والموانئ البحرية، وازدهرت الصناعات الحديثة في أرجاء الخلافة في عهد الناصر، وامتلك المسلمون أقوى جيشٍ عرفته أوروبا في القرون الوسطى، فجاءت وفود ملوك أوروبا من كل حدب وصوب بالهدايا الثمينة وبأموال الجزية إلى الخليفة الناصر في قرطبة.
العجيب أن هذا كان وضع الأندلس قبل عهد ملوك الطوائف بسنوات قليلة، وإذا كنت تتساءل كيف تحول حال المسلمين في الأندلس إلى تلك الحالة المزرية بعد ذلك حتى صاروا يدفعون الجزية لألفونسو، فاعلم أن العجب كل العجب يكمن في حال المسلمين قبل ظهور هذا البطل الإسلامي على الساحة الأندلسية، فلقد وصلت