الرواية أمران، الأول هو أن سر ذاكرة البخاري القوية يكمن في فقده لبصره في طفولته، فالمعلوم طبيًا أن هناك خاصية عجيبة خلقها اللَّه في جسم الإنسان، ألا وهي خاصية "التعويض الوظيفي" وتنص على أن الجسم البشري إذا ما فقد حاسة من حواسه، فإن قوة الحواس الأخرى تزيد بشكل يعمل على سد الثغرة الحسية التي نتجت عن فقده لتلك الحاسة، وهذا ما يفسر قوة السمع والحفظ للطفل الأعمى، أما في حالة البخاري فقد اكتسب دماغه أثناء عماه تلك الخاصية الاستثنائية على ما يبدو، ثم ردّ اللَّه عليه بصره، فصار البخاري يجمع بين ذاكرة الأعمى، ونظر المبصر، فأصبح إنسانًا استثنائيًا! أما الشاهد الثاني فهو أن البخاري مختارٌ من اللَّه الذي هيأه لهذه المهة الخطيرة، مهمة حفظ وحي السماء الذي جاء على صورة أحاديث رسول اللَّه، فهناك خطأ شائع لدى البعض ممن يعتقدون بأن اللَّه تكفل بحفظ القرآن فقط بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)}، فالذكر هو الوحي الإلهي الذي نزل على صورة القرآن أو الأحاديث القدسية أو أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي لم يكن ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)}، وحفظ هذا الذكر يتطلب رجالا يحفظون القرآن كعثمان ابن عفان، ويحفظون الأحاديث كالبخاري ومسلم، ويحفظون سيرة الرسول وسيرة أصحابه الذين حفظوا لنا القرآن والسنة: وهذا ما قام به أئمة المؤرخين من أمثال الطبري وابن كثير، ويتطلب أيضًا رجالًا مثلي ومثلك يقومون بالدفاع عن سيرة أولئك كلهم، والذين نقلوا الإِسلام لنا، والذين لو استطاع غزاة التاريخ أن ينالوا من سمعتهم وسيرتهم، لسقط هذا الدين بالكلية، ولأصبحنا أنا وأنت مجرد قطيعٍ بلا راعي!
وهذا بالضبط ما نحاول صنعه في هذه السطور القليلة، فليس الغرض من هذا الكتاب مجرد سرد الحكايات والقصص المسلية، بل الهدف الأساسي منه هو الدفاع عن دين اللَّه في هذه الفترة الزمنية الحرجة التي يحاول فيها غزاة التاريخ أن ينالوا من دين اللَّه بالهجوم على ثوابته ورموزه بعد أن عجزوا لمئات السنين من أن يتخلصوا من المسلمين أنفسهم بعد ما قضوا مئات السنين يحاولون ذلك بمجازرهم ومذابحهم، فما وجدوا إلا ازديادًا لأعداد المسلمين رغم كل ذلك!
فهناك ظاهرة طفت على السطح في السنوات الأخيرة بالذات، أحسب أنني لم أسمع