للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحقيقة أن صعوبة المرحلة التي مر بها أبو عبيدة بن الجراح كانت أشد من أن يتصورها خيال أو يدركها عقل، ففي يوم بدر رأى أبو عبيدة رجلًا من المشركين في جيش قريش يحاول مبارزته، فحاول أبو عبيدة جاهدًا أن يتجنب قتال ذلك الرجل بالذات، إلّا أن ذلك المشرك أخذ يتتبع أبا عبيدة في كل مكان يريد قتاله، وفي لحظة من اللحظات النادرة في تاريخ النفس البشرية كان الاثنان في مواجهة بعضهما البعض.

فمن هو هذا الرجل الذي أراد مبارزة أبي عبيدة؟

قبل أن نتعرف على هوية هذا الرجل المشرك لا بد أن نرى التصوير الرباني لهذه اللقطة العظيمة من عمر الأرض، فلقد بلغ من سمو هذه اللحظة أن خلدها اللَّه من فوق سبع سماوات في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، فأنزل اللَّه هذه الآية في حق أبي عبيدة عامر ابن الجراح: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)}.

لقد كان ذلك المشرك هو الجراح أبو أبي عبيدة نفسه! فقتل أبو عبيدة أباه، أو قل قتل أبو عبيدة الكفرَ في أبيه، فلقد أدرك أبو عبيدة أنه بين خيارين اثنين لا ثالث لهما: الأهل أو الإسلام! فلم يكن صعبًا عليه أبدًا أن يختار، فلقد اختار أبو عبيدة الإسلام العظيم.

ومن بدر إلى أحد. . . . . هل ما زلنا نتذكر كيف كان طلحة يدافع عن الرسول حينما كان خطر القتل يتهدده من كل جانب؟ حينها جاء من بعيد أبو بكر يجري بأقصى سرعته لينجد رفيق دربه محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحقيقة أن أبا بكر لم يكن يجري لوحده وإنما لحق به من جهة المشرق رجل طويل القامة، نحيف الجسم، وصفه أبو بكر بوصف عجيب في حديث عائشة بقوله: "إنسان قد أقبل من قِبل المشرق يطير طيرانًا، فقلت: اللهم اجعله طاعة حتى توافينا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا أبو عبيدة بن الجراح! "، هناك رأى الاثنان أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أصيب في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المِغفر (خوذة المحاربين)، فأراد أبو بكر نزعهما من وجه حبيبه الطاهر، إلا أن إبا عبيدة قال له: "أسألك باللَّه يا أبا بكر إلَّا تركتني" فعض أبو عبيدة الحلقة الحديدية التي في وجنة

<<  <   >  >>