وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ وَالْفَمِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَوْنُ الْإِبِلِ مُخْتَصَّةً بِزِيَادَةِ زُهُومَةٍ وَدُسُومَةٍ لَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِالْأَمْرِ، " «فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا» ".
وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَبَنِ الْإِبِلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دَسَمَهَا دُونَ دَسَمِ لَحْمِ الْغَنَمِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ غَسْلَ الْيَدِ وَالْفَمِ، وَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَبِعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ، وَالْحُكْمُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا الْإِيجَابُ، كَالْوُضُوءِ مِنَ الصَّوْتِ وَالرِّيحِ وَمَسِّ الذَّكَرِ؛ وَلِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ، وَالنَّهْيُ فِي لَحْمِ الْغَنَمِ إِنَّمَا أَفَادَ نَفْيَ الْإِيجَابِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي لَحْمِ الْإِبِلِ مُفِيدًا لِلْإِيجَابِ؛ لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ، وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِذَلِكَ صِفَةً فِي الْإِبِلِ تَقْتَضِي الْوُضُوءَ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْوُضُوءِ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْبَابَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ دُونَ الْغَنَمِ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ خَارِجٍ عَنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَلَإِنْ قَالَهُ قَائِلٌ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ، وَهَذِهِ عِلَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ لَيْسَتْ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِنَفْسِ الْحُكْمِ، وَالشَّارِعُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمَا بِالْحُكْمِ لِمَعْنَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى أَنْ يُوجِبَ الْوُضُوءَ أَوْ لَا يُوجِبَهُ، أَوْ لَا يَقْتَضِيَهُ، ثُمَّ لَمْ يُسَلِّمِ اخْتِصَاصُ الْإِبِلِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَنْعَامِ بِوَصْفٍ يُسْتَحَبُّ مَعَهُ الْوُضُوءُ بِطَلَبِ جَمِيعِ أَدِلَّتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ يُوجِبُ صَرْفَ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ، وَيُقَالُ: إِنْ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ جَازَ أَنْ يَخْتَصَّ بِوُجُوبِهِ، وَهُوَ الْمَعْقُولُ مِنَ الْكَلَامِ، فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ، ثُمَّ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ أَنَّهَا احْتِمَالَاتٌ مَرْجُوحَةٌ وَتَأْوِيلَاتٌ بَعِيدَةٌ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا إِلَّا مَعَ دَلِيلٍ قَوِيٍّ أَقْوَى مِنْ تِلْكَ الدَّلَالَةِ يُوجِبُ الصَّرْفَ عَنِ الظَّاهِرِ وَالْمَصِيرِ إِلَى الْبَاطِنِ، وَلَيْسَ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِلُحُومِ الْإِبِلِ دَلِيلٌ يُقَارِبُ تِلْكَ الدَّلَالَةَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْحَابُ حَالٍ وَقِيَاسٌ طَرْدِيٌّ يَحْسُنُ اتِّبَاعُهَا عِنْدَ عَدَمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute