للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

"لقد أدرك أسلافنا العظماء هذه الحقيقة إدراكًا كاملًا، وفي تفسيرهم للقرآن اقتربوا من نصوصه من خلال (عقولهم)، أو بعبارة أدق حاولوا شرح معاني القرآن على ضوء اللغة العربية والسُّنَّة جنبًا إلى جنب مع المعارف العامة المتاحة لهم، مما تجمع لدى المجتمع الإنساني حتى عصرهم من تجارب وثقافة، ولهذا كان من الطبيعي أن يختلف في أحيان كثيرة فهم أحد المفسرين لآية من القرآن عن فهم من سبقوه، وقد يكون ذلك الاختلاف -وغالبًا ما يكون- حادًا وواسعًا، ويناقض بعض المفسرين بعضهم بعضًا، ولكن ذلك لم يخلق عداء بينهم، لإدراكهم لعنصر النسبية في التفكير البشري، وأنه لا أحد يبلغ الكمال" (١).

ولنأخذ مثلًا كيف يفسر محمد أسد صفات الله الواردة في القرآن. يقول: بما أن الله -عز وجل- كائن لا تحده حدود الزمان والمكان فإن كل ما يمكننا أن ندركه عنه ما يسمى بالصفات السلبية (What he is not)، أما صفاته الثبوتية فلا يمكن أن نكون عنها إلا فكرة ناقصة عن طريق استعارات وأمثلة عامة ومجملة. ولهذا فهو يعتبر هذه الصفات مجازات لابد من تأويلها، فيقول عندما يوصف الله تعالى بأنه في السماء أو أنه: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]، فإن هذه ليست إلا أداة لغوية لتقرب لنا معنى فوق إدراك البشر، وهو قدرة الله الواسعة وسلطانه القاهر فوق كل شيء وكذلك عندما يوصف الله بأنه (السميع) (البصير) فإن ذلك لا يمت بصلة إلى ظاهرة السمع والبصر العضوية، ولكنه فقط يصور بطريقة مفهومة للعقل البشري حضور الله عند كل شيء وكل حدث. وكذلك كثير من الصفات التي يبدو لأول وهلة أنها تعني التجسيم، مثل الغضب والفرح والحب و {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: ٦٧]، وأمثالها فهي لا تعدو أن تكون (تراجم) في لغة بشرية، ورموزًا لأفعال الله تعالى (٢).

ونفس الرموز -في رأي أسد- موجودة في وصف القرآن لليوم الآخر والحياة الثانية، والجنة والنار. وكل ما جاء من وصف لهذه الأمور ما هو إلا رموز مأخوذة من تجاربنا، فكأن القرآن يقول لنا: "تخيلوا كل ما يمكن لكم تخيله مما


(١) Asad, "the Message of the Quran" P.VIII.
(٢) المصدر نفسه P.٩٩,٩٩٠.