ورأينا الذي نصرح به أن كل ما في القرآن وما في السُّنَة -دعك من مذاهب الفقهاء- من تشريعات لا تتناول العقيدة وما يتعلق بها من شعائر العبادة، بل تتناول أمور الدنيا ومعاملاتها وتنظيمها وعلاقاتها، كل هذه التشريعات بلا استثناء واحد ليست ملزمة في كل الأحوال. . . إن كل هذه التشريعات لم يقصد بها الدوام وعدم التغير، ولم تكن إلا حلولًا مؤقتة احتاج لها المسلمون الأوائل، وكانت صالحة وكافية لزمانهم وبيئتهم، فليست بالضرورة ملزمة لنا، ومن حقنا بل من واجبنا أن ندخل عليها من الإضافة والحذف، والتعديل والتغيير، ما نعتقد أن تغير الأحوال يستلزمه، وما نعتقد أنه الآن كفيل بتحقيق الغايات الإسلامية العليا" (١).
وهذا الرأي الصريح الجريء يلخص موقف العصرانية بلا مواراة، وبلا تستر وراء أقنعة متعددة، ويوضح كيف أن العصرانية هي العلمانية مغلفة بغلاف الدين. فنصوص القرآن والسُّنَّة الخاصة بمسائل العقيدة والعبادة هي التي تقبل، أما غيرها في أي ناحية من نواحي التشريع، فتخضع للقص والقطع، والتهذيب والتشذيب، وإعادة التأويل والتفسير، والإلغاء في أكثر الأحيان.
وإذا كان هذا الكاتب قد اقتصر على بيان وجهة نظر العصرانية في التشريعات الخاصة بالمجتمع، فقد رأينا أن العصرانية ترى إعادة النظر حتى في مسائل العقيدة -وقد تكون العبادة أيضًا- وقد رأينا نماذج من ذلك في آراء سيد خان ومحمد أسد، وهذا نص آخر فيه المزيد لمن أراد أن يستزيد:
"إن اللاهوت التقليدي عند العلماء لا يرضى عقول القرن الحاضر ووجهات نظره، وإذن فإعادة الاختيار وإعادة التفسير وإعادة الصياغة وإعادة التقرير للقواعد الجوهرية للإسلام، تبدو ضرورة ملحة لعصرنا الذي نعيش فيه. . . ينبغي أن يعاد النظر في اللاهوت الإسلامي من جميع نواحيه وينبغي أن تستخدم الفلسفة الحديثة، والميتافيزيقيا والأخلاق، وعلم النفس والمنطق، في صياغة القواعد الأساسية وإعادة تقريرها. . . فالتيار المعاصر من الفكر الأوروبي، والتقدم العظيم الذي حققه المفكرون البروتستانتيون، وتأملات
(١) محمد النويهي، "نحو ثورة في الفكر الديني" ص ٣١ مجلة الآداب، بيروت، مايو ١٩٧٠ م.