المطعن الأول: إن ثقافة العصر بالمفهوم الواسع لكلمة ثقافة تقوم كلها على أمور علمية، بل إن بعض نواحي هذه الثقافة ما تكون إلا على أذواق وأهواء لا صلة لها بالعلم، وليس ذلك قاصرًا على الآداب والفنون فقط بل يشمل مسائل أخرى كثيرة من شعب الحياة، خذ مثلًا الربا في الشعبة الاقتصادية وأوضاع المرأة في الشعبة الاجتماعية، فهذه وأمثالها لم تخضع لدراسة علمية دقيقة، ولا نظر إليها بنظر البحث العلمي المجرد بل هي عادات وتقاليد، تكونت على أثر عوامل متعددة، ولهذا فمن الخطأ أن يظن مثل قاسم أمين أو غيره، أن هذه الأوضاع قد بحثت بحثًا علميًا، وانتهى الناس إلى أن الاختلاط مثلًا هو مما يحبذه العلم، وأنه من المظاهر العصرية اللازمة، ولا حتى عمل المرأة، أو مسألة الطلاق، أو مسألة تعدد الزوجات أو غيرها من المسائل. إن من يظن هذا الظن يخلط خلطًا عجيبًا بين العلم والمعرفة وبين الأذواق والأهواء.
المطعن الثاني: إن القليل جدًا من معارف العصر وعلومه، باعتراف المتخصصين وذوي الخبرة في هذه العلوم، هو من الحقائق العلمية الثابتة والأمور اليقينية التي لا تقبل النقض. ومعظم العلوم العصرية حتى التجريبية منها، دعك عن العلوم الاجتماعية والإنسانية، تقوم على فروض واحتمالات، وفي كل يوم ينقض العلم نظرية ويبني نظرية أخرى، فكيف يخضع الدين لتفسيرات وتأويلات وفهم مختلف اعتمادًا على فروض واحتمالات متغيرة متبدلة؟
المطعن الثالث: مطعن هام وخطير، وهو أن معارف العصر بكل فروعها وأقسامها حتى العلوم التجريبية منها، لا تقوم على حقائق مجردة، معتمدة على المشاهدة والتجربة والاستنتاج، بل قد صاحبتها تصورات وتفسيرات ونظريات تسيطر عليها الروح الإلحادية المادية، فصاغت كل العلوم داخل هذا الإطار وصبتها في قالبه، ودونت كل حرف فيها بمداد الإلحاد والعداء للدين، وكل ما خرج عن الإطار المادي اعتبر خارج دائرة العلم، ووضع في باب الخرافات والأساطير، والأوهام والتخيلات.
وهكذا فإن ذلك التصور الإلحادي المادي قد ترك آثاره في كل فروع معارف العصر، وحين تنظر العصرانية للدين من خلال معارف العصر بكل ما فيها، ترتكب بحق الدين وبحق العلم، أخطاء شنيعة، وتأتي محاولاتها للتوفيق بين الدين وبين معارف العصر محاولات خرقاء شوهاء.