للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القوانين تعمل بنفسها، بل إن أي قانون يحتاج لسلطة مهيمنة وقوة تُسَيِّر الأشياء وفقه. والذي خلق الكون ونواميسه هو الذي يدبر هذا الكون كيف شاء، بهذه النواميس والقوانين أو بغيرها قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: ٤١]، وقال: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: ٦٥]، وسمى الله تعالى نفسه (الحي القيوم)؛ أي: القائم بتدبير خلقه (١). وأخبرنا عن نفسه أنه كل يوم هو في شأن، وجاء في معنى ذلك أن من شأنه أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويحيي ويميت ويذل، ويرزق ويمنع، ويغفر ذنبًا ويكشف كربًا، ويجيب داعيًا (٢).

٣ - وإذا رسخت في الذهن الحقيقة البديهية السابقة، وهي أن هذا الكون وما فيه من قوانين طبيعية وسنن اجتماعية هي من خلق الله تعالى وتدبيره، فلن يكون خرق هذه القوانين بأي صورة من الصور أمرًا خرافيًا أسطوريًا. ولكن الذي يرسخ في ذهنه قيام هذا الكون بنفسه، واكتفاؤه عن خالقه، هو الذي يرى المعجزات في أي شكل من أشكالها ضربًا من الوهم والخيال. وبسبب تأثير هذا التصور المادي الإلحادي في العلوم العصرية، أنكرت العصرانية المعجزات والخوارق وقدحت خيالها لتقديم التأويلات المختلفة لها. وهذا الموقف هو سمة مشتركة للعصرانية في الغرب وعند المسلمين، متمثلًا في سيد خان ومحمد أسد، كما أنه انحراف قديم ظهر عند المسلمين عندما تأثروا بالفلسفة اليونانية، وهو انحراف لا صلة له بالعلم وبعيد عن العقل، إنما هو الظن القائم على النظرة المادية البحتة.

٤ - وبسبب هذه النظرة المادية البحتة، التي تحاول أن تقصر كل شيء في هذا الكون في الإطار المادي المحسوس، تجيء المحاولات الأخرى لتأويل أمور الغيب تأويلًا حسيًا، فيقال: إن النبوة ملكة إنسانية، والوحي حاسة سادسة في البشر ومرحلة عليا من العبقرية، والملائكة قوى الخير في النفس، والشياطين الإغراءات النفسية الشريرة، ووصف النعيم والعذاب ليس وصفًا لأمور حقيقة حسية إنما إشارات رمزية. . . وأمثال ذلك من التخيلات التي امتلأت بها قديمًا


(١) "تفسير القرطبي" ٣/ ٢٧١.
(٢) المصدر نفسه ١٧/ ١٦٦.