للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

شديدة تبديه وتظهره، لذلك كانت المصائب والأزمات سبباً لظهور الإيمان. وكل واحد منا إذا مرض مرضاً يئس منه الأطباء أو أشرف على الموت ذكر الله.

أنا رأيت الموت مرتين، مرة لمّا غرقت في بحر بيروت من ست سنين، ومرة لما مرضت من سنتين. كنت أسبح، أو أنا -على الأصحّ- أحاول تعلم السباحة ولا أحسن منها في الحقيقة شيئاً، وإذا أنا أحس فجأة أن رجلَيّ ليس تحتهما شيء وأني أغوص في الماء، وجعلت أبتلع ماء البحر فلا أستطيع أن أتنفس، وأريد الصياح مستنجداً فلا يخرج صوتي من حلقي. ورأيتني في نصف دقيقة كأني ابتعدت عن هذه الدنيا مئة سنة، فلم أعد أذكر منها شيئاً، لا الأهل ولا المال ولا الجاه؛ لم يعد يهمّني إلا أمران أنا أتردد بينهما، الأمل في النجاة والخوف من الحساب. ونظرت فإذا كل ما كنت أَعُدّه لي لم يبقَ في يدي منه شيء، لم يأتِ معي في ساعة الموت زوجة ولا ولد ولا صديق، والمال الذي جمعته تركته لمن يرثني، والجاه الذي حصلته خلفته وراء ظهري، ونظرت في الكتب التي كتبتها والشهرة التي حصلتها والمناصب التي بلغتها فلم أجد معي من ذلك شيئاً (١).

في تلك الساعة يتيقّن الإنسان أنه لم يبقَ إلا حقيقةٌ واحدة يفكر فيها، هي أنه قادم على الله. إن الشدائد تذكّره بهذه الحقيقة التي كان نسيها، ولذلك خبّر الله عزَّ وجل أن كفار قريش كانوا


(١) انظر قصة غرق علي الطنطاوي في مقالة «في لجّ البحر»، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).

<<  <   >  >>