تتمنونه في النهار من الطعام والشراب ألا ترونه تعذيباً؟ ذلك لأن اللذّات المادية لها حدّ تقف عنده، واللذة الباقية التي لا حدّ لها هي لذة الروح.
يحرص الإنسان على جمع المال ونيل الجاه، يكِدّ ويتعب ويسعى ويذهب ليزداد مرتّبه ويعلو منصبه ويكثر ربحه ويرتفع جاهه، فإذا مرض المرض العضال أو ذهب سمعه أو بصره تمنى أن يخسر ماله فيعود فقيراً أو يضيع جاهه كله فيكون صعلوكاً ليخلص من مرضه وتعود صحته. وإذا ابتلي بداء العشق وعرف لوعة الحب، سهر ليله وترك طعامه وأفنى جسده وأذهب صحته، ليفوز من الحبيب بساعة لقاء وينعم منه بلحظة وصال. فإذا ذاق لذة الخلوة بالله ومتعة المناجاة في الأسحار والصلاة في الليل والناس نيام، وجد أوهام العشق قد تبددت وذهبت كما ذهب تمثال من الثلج سطعت عليه الشمس.
فالمتع واللذات درجات أدناها اللذات المادية، لذة المال والجاه، وفوقها لذة الصحة التي يكون بها بقاء الجسد، وفوقها لذة العاطفة التي تكون بها متعة النفس، وفوقها كلها لذة الروح التي تكون بها سعادة الدنيا والآخرة. وكل هذا مشاهَد محسوس، ولكن من الناس من يقف عند الدرجة الأولى فلا يهمّه إلا المال، ومنهم من يرقى درجة أخرى فيهتم بالصحة، ومنهم من يرقى الدرجة الثالثة فيكون من أهل العاطفة وأرباب القلوب، ومنهم صفوة قليلة مختارة تبلغ ذروة السلّم وتصل إلى الدرجة العليا، وهؤلاء هم خِيار البشر.