للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقوْله تَعالَى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أيْ لا تُبدِّلُوا خلْقَ الله بالإشْراكِ، بَلْ أَقِيمُوا وُجوهَكُم حُنَفاءَ, ويَجُوز أنْ يكُونَ نفْيًا عَلَى ظاهِرِه، وأنَّه لا أحَد يُبَدِّلُ خلْقَ الله كَما في قوْلِه تَعالَى: {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: ١١٥]، ويكُونُ المَعْنى أنَّ الأَمْر بيَدِ الله عَزَّ وجَلَّ، فمَن شَاء هُدَاه بَقِي عَلَى فطْرَتِه، ومَنْ شَاء أنْ يُضلَّه أضلَّه، فلا أحَدَ يسْتَطِيعُ أن يبَدِّل خلْقَ الله، وإنَّما الَّذي بيَدِه الأَمْرُ هُو الله، وعَلى هَذا يكُونُ في الآيَةِ وجْهَانِ:

الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّها خبرٌ بمَعْنى النَّهْي.

الوَجْهُ الثَّاني: أنَّها خبرٌ عَلَى بابِها.

وعَلى الأوَّلِ الأَمرُ ظاهِرٌ، يعْني: المَعْنى ظاهِرٌ أنَّكُم لا تُبدِّلُوا، فيكُونُ الله نَهانَا عَن الإِشْراكِ، وعَلى الثَّاني يكُونُ وجْهُه أنَّ هَذِهِ الفِطْرَةَ الَّتِي فطَر الله علَيْها الخلْقَ، لا أحَد يسْتَطيعُ أنْ يُبدِّلَها، بَلِ الَّذي يُبدِّلُها هُو الله، فمَنْ أَراد الله هِدايَتَه لَنْ يُضِلَّه أحَدٌ، وَمن أرَادَ الله إضْلالَه لَنْ يهْدِيَه أحَدٌ، لا سِيَّما أنَّه قالَ قبْلَ هَذا، {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ}، فما قالَه المُفَسِّر رَحَمَهُ اللَّهُ لَه وجْهٌ؛ لوُرُودِ ذَلِك في اللّغَةِ العرَبِيَّة، والوَجْهُ الثّاني هُو الأَصْل؛ لأَنَّ الَّذي عنْدَنا نفْيٌ، فمَنْ صرَفَه عَنْ ظَاهِره يحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هَذا التَّفْسيرُ أَلا يُوافِق قولَ الجبرَّيةِ؟

فالجوابُ: لَا، الرّسولُ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خُطْبَتِه: "مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ" (١)، لا أحَدَ يسْتَطِيعُ هِدايةَ إِنْسَانٍ أبدًا، أو انحرافَ إِنْسَانٍ إلَاّ بإِذْنِ الله، هَذا النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حرِصَ غايَةَ الحِرْصِ وَبذَل ما يستَطِيعُ مِن جهْدٍ في هِدايَةِ عمِّه


(١) أخرجه مسلم: كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (٨٦٧).

<<  <   >  >>