فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة تؤلف الملحمة البشرية منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريث له فيها، ويا لها سلسلة من النور! .. تتمثل فيها جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها، المتصلة في سبيل الرقي والتقدم.
هكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يُبعث ليكوّن حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى.
وما أجلّ هذه الساعة!. حينما تؤذن بفجر جديد من المدنية، وما أهولها من ساعة حينما تعلن غروب أخرى!. وهكذا كان شأن الجزائر عام ١٨٣٠، فقد مضى على أفول شمسها زمن بعيد، وقضت في ليلها وقتا ليس بالقصير، ومن عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإِنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في منامها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد.
فعندما برق في أفقنا فرس الأمير (عبد القادر) في وثبته الرائعة كان الليل قد انتصف منذ وقت طويل ثم اختفى سريعا شبح البطل الأسطوري كأنه حلم طواه النوم.
ثم توالت أشباح أخرى في موجة من الأحلام. تستمد مغزاها الأليم من تقاليد شعب بطل، أحب دائما الفرس والبارود، وكان تتابعها على الأخص في البوادي، حيث الخيل المسومة، والمجال الفسيح متوفران لدى القبائل.
فالرابطة القبلية قد ظلت وحدها الرابطة الوثيقة التي توحد بعض الرجال فيما يشبه وحدة رسالة، غير أن هذه الرابطة لم تكن بكافية لتأهيل شعب ليؤدي رسالة تاريخية، وإن كانت أهلته للقيام برواية حماسية رائعة، ولكن التاريخ يقرر أن الشعب الذي لم يقم برسالته، أي بدوره في تلك السلسلة، ما عليه إلا أن يخضع ويذل.