والذين أدركوا شبابم في تلكم الأيام يتذكرون تلكم الخواطر التي كانت تمر بهم.
وليس من شك في أن التاريخ يرى في مثل هذه الظواهر خير شاهد على رجوع الحاسة الاجتماعية إلى الجزائر، بمعنى أنها قد عادت إلى الحياة التي يستأنف فيها كل شعب رسالته، ويبدأ تاريخه.
أما في الماضي فقد كانت البطولات تتمثل في جرأة فرد، لا في ثورة شعب، وفي قوة رجل، لا في تكاتف مجتمع، فلم تكن حوادثها تاريخا، بل كانت قصصا ممتعة، ولم تكن صيحاتها صيحات شعب بأكمله، وإنما كانت مناجاة ضمير لصاحبه، لا يصل صداه إلى الضمائر الأخرى، فيوقظها من نومها العميق.
وإنه لمن الواجب علينا أن ننوه ببعض ما كان من أمر مناجاة الشيخ (صالح بن مهنة) الضميرية الفردية- إن صح التعبير- فإن صوت مناجاته كاد يوقظ أهل قسنطينة كلها حوالي سنة ١٨٩٨.
والحق أن هذا الشيخ الوقور كان في طليعة المصلحين، إذ أنه قام قومة مباركة ضد الخرافيين (الدراويش)، غير أن الحكومة الساهرة على الهدوء، كيلا يستيقد النائمون، عملت على إبعاده وعاقبته بمصادرة مكتبته الثمينة، وفرقت أمثاله من (مقلقي النوم العام) في نظر الاستعمار، فحولت الشيخ (عبد القادر المجاوي) من منصبه بمدرسة قسنطينة، إلى مدرسة العاصمة، وهكذا استطاع النوم أن يشد بالأجفان من جديد، بعد أن حاولت تفلتا من قيوده، ومضت هذه الأصوات التي كادت أن تلفت إليها الأذهان، وتجمع حولها الناس، وكأنها شجار حدث في وسط ليل: لم ينتبه إليه نائم.
ولكن شعاع الفجر قد بدأ ينساب بين نجوم الليل، من قمة الجبل. فلم يلبث أن محت آياته الظلمة من سماء الجزائر. فحوالي عام ١٩٢٢، بدأت في الأرض هينمة وحركة، وكان ذلك إعلانا لنهار جديد، وبعثا لحياة جديدة. فكأنما