الشاي، وكم سمعنا من الاسطوانات، وكم رددنا عبارة (إننا نطالب بحقوقنا)، تلك الحقوق الخلابة المغرية، التي يستسهلها الناس، فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات.
وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين، يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي، يقاد إلى صناديق الاقتراع، أو قافلة عمياء زاغت عن الطريق، فذهبت حيث قادتها الصدف في تيار المرشحين.
وفي هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها، فإن هذه العقول قد عادت إليها الوثنية، تلك الوثنية التي تلد الاصنام المتعاقبة المتطورة. كما تتطور الدودة الصغيرة إلى فراشة طائرة، إذا ما صادفت جوا ملائماً. وهذا يعني أن البلاد لم تتحقق فيها النهضة المنشودة، وكل الذي كان هو أن أحداثا صدمتها صدمة عنيفة أيقظتها من نومها، ثم لم تلبث بعد أن زال أثر هذه الصدمة أن غالبها النعاس، فعادت إلى النوم، وأمكنها في نومتها هذه أن تعود إلى أحلامها، غير أنها أحلام ذات موضوع آخر، إنها أحلام الانتخابات، قامت على أطلال الزوايا المهدمة التي دمرها معول الاصلاح الأول.
وهو يعني من ناحية أخرى أن أرواحنا لا تزال مكدسة في محيط الطلاسم والخيال، ذلك المحيط الذي لا يزال يحتفظ بها منذ أن سقطت الحضارة الإسلامية.
وهكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخرى، كان الإصلاح قد حطم الزوايا والقباب من دون الوثن، فقد توارت الفكرة عن العقول وحلت محلها الوثنية التي تتكلم اليوم وحدها، إذ نصب لها في كل سوق منبر (١)، كي يستمع الناس إليها، تسلية لهم، وإغفالا لواجباتهم، وإبعادا لهم عن طريق التاريخ. لقد ورث المكروب السياسي ميكروب الدروشة، فأصبح يفعل بالشعب ما كان سلفه يفعل، فبعد أن كان الشعب يقتني بالثمن الغالي البركات والحروز، أصبح يقتني الأصوات والمقاعد الانتخابية، ويسعى اليها في تعصب لا يفترق عن
(١) وعلينا ان نقول ان الاستعمار يتتبع هذه الأطوار بكل اهتمام وبكل ما لديه من الوسائل، لكي يعيد الشعب المستعمر إلى عهد الوثنية، فهو كلما تظهر فكرة فى الأفق ينصب اصناما ويشيد في البلاد منابر عليها يظهرون، كما بينا ذلك في كتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".