خامدة من الورق والكلمات، ولكنه رجل شعر في حياته الخاصة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية والاجتماعية. وتلك هي المأساة التي شعر بها بن نبي بكل ما فيها من شدة، وبكل ما صادف في تجاربه الشخصية النادرة من قساوة. وهي التي تقدم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء (الظاهرة القرآنية) أو الدراسة التي يقدمها اليوم كأنشودة بهيجة يحي بها (كوكب المثالية) الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة.
ولكن هذه الأنشودة ثمرة عقل يحاول فتح آفاق عملية للنهضة العربية والإسلامية، التي يطالبنا بها في الجزائر، وهو يكشف لنا عن مفهومها الأليم.
فإذا كان دقيقاً حساسا إلى هذه الدرجة، فليس معنى ذلك أنه رجل عقل مغرم بالتجريد، أو أنه أديب فنان مولع بصور الجمال، فإن الذي يأسره ويستولي عليه إنما هو الرعشة الإنسانية ... الألم ... الجوع ... الأسمال ... الجهل ...
فهل من يفكر من أول وهلة في مواجهة هذه المشكلات يكون غير فقيه؟
لقد عاش بن نبي هذه المشكلات تماما كالآخرين الذين اتخذوا منها معارج انتخابية، يتحدثون منها عن البؤس حتى درجة الإشباع التي تناسب جميع صنوف الدجل والاستغلال، ونحن نعلم اليوم ما يؤدي إليه مثل هذه الحالة من الاختلال والقحط والفوضى.
ولكن التجربة الشخصية تعني عند بن نبي شيئا آخر: فهي سبب لتأمل في الدواء، ومن هذا التأمل تبدأ المأساة في أن تصبح عنده مشكلة فنية، فهو يقودنا بتحليله الدقيق الوثيق في أركان التاريخ لكي يكشف لنا عن (الدورة الخالدة) التي ألهمته الأنشودة الجميلة التي صدّر بها هذه الدراسة.
ولكن قبل اقتراح الحل. يجب أن تزول تماما الأنقاض من الفناء الغاص ببقايا انحطاطنا. ورواسب الفوضى التي عشنا فيها سنين عديدة.
وهذا الكتاب قد استطاع في فصوله الأولى أن يلقي الضوء على تلك الحقبة