للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وعليه فإنه مما ينسجم وطبيعة الأشياء حينما ندرس تطور هذه الحضارة، أن ندرس من حيث الأساس العلاقة العضوية التي تربط الفكرة بسندها. وإذن فكل القيم النفسية- الزمنية التي تميز مستوى حضارة ما في وقت معين، ليست إلا الترجمة التاريخية لهذه العلاقة العضوية بين فكرة معينة كالاسلام مثلا، والفرد الذي يمثل بالنسبة إليها السند المحسوس. وهو هنا المسلم.

ومن هنا تعين علينا اللجوء إلى لغة التحليل النفسي بغية تتبع اطراد الحضارة باعتباره صورة زمنية للافعال وردود الأفعال المتبادلة والتي تتولد منذ مطلع هذا الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تبتعث فيه الحركة والنشاط. وحينئذ فعندما نعتبر الفرد عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية التي قدمناها فإننا نجده في الحالة التي يعرفها بعض المؤرخين المسلمين بـ"الفطرة"، مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة. فالفرد في هذه الحالة ليس أساسه إلا "الانسان الطبيعي" أو الفطري ( L'homonatuna) غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إِخضاع غرائزه إلى " عملية شرطية "، ( Conditionnement) تمثل ما يصطلح عليه علم النفس "الفرويدي" بـ"الكبت" ( Refoulement) .

وهذه العملية الشرطية ليس من شأنها القضاء على الغرائز ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية: فالحيوية الحيوانية التي تمثلها الغرائز بصورة محسوسة لم تلغ ولكنها انضبطت بقواعد نظام معين.

وفي هذه الحالة يتحرر الفرد جزئيا من قانون الطبيعة المفطور في جسده. ويخضع وجوده في كليته إلى المقتضيات الروحية التي طبعتها الفكرة الدينية في نفسه. بحيث يمارس حياته في هذه الحالة الجديدة حسب قانون الروح.

هذا القانون نفسه هو الذي كان يحكم بلالاً حينما كان تحت سوط العذاب يرفع سبابته ولا يفتر عن تكرار قوله "أحد! .. أحد! .. " إذ من الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة. فصوت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن

<<  <   >  >>