للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

ففي بلاد مستعمرة كالجزائر، نرى أنه ليس فيها طبقات، وإنما هنالك صنفان من الناس:

الصنف الأول: وهو الذي يسكن المدينة، إما متعطل لا يعمل شيئا، وإما أنه يبيع بعض العقاقير والحاجات، وإما أنه " شاويش " في إدارة استعمارية، وبعض آخر نجده محاميا أو صيدليا أو قاضيا، وقليل ما هم.

والصنف الثاني: وهو الذي يسكن البادية مترحلاً بلا مواش، فلاحا بلا محراث ولا أرض.

والفرق بين هذين الصنفين هو أن ساكن الحضر رجل قليل، تتمثل فيه القِلة في كل شيء. والثاني رجل الفطرة الذي يرضى من الأشياء بالعدم، ولكن رب عدم خير من القليل، إذ أن رجل المدينة الذي رضي بالقليل من الأشياء، قد تغلغلت في نفسه دواعي الانحطاط التي قضت على المدنيات المتعاقبة على بلاده من أيام قرطاجنّة، فهو يحمل روح الهزيمة بين جوانحه، فقد عاش حياته دائما في منحدر المدينة إذ هو دائما في منتصف طريق. وفي منتصف فكرة، وفي منتصف تطور، لا يعرف كيف يصل إلى هدف، إذ هو ليس "نقطة الانطلاق" في التاريخ كرجل الفطرة؛ ولا " نقطة الانتهاء " كرجل الحضارة، بل هو " نقطة التعليق " في التطور، وفي التاريخ، وفي الحضارة. فرجل المدينة إذن يصدق عليه هذان الوصفان: " رجل القلة " و " رجل النصف " الذي دخل في ميدان فكرة هي الاصلاح، فمسخها (نصف فكرة) وأطلق عليها اسم " السياسة " لأنه لم يكن مستعدا إلا لنصف جهد، ونصف اجتهاد، ونصف طريق.

واليوم فإن ذلك الرجل المقل يحاول وضع القضية الجزائرية في طريق نصف الحل، أمام المجلس المنصف بين المستعمرين وأهل البلاد ذلك المجلس الذي فرضه الاستعمار كميدان لإنصاف المثقفين (١).


(١) ولا زال هذا النوع يحمل بين طياته كل النكبات التي تحل ببلاده، متكررة كل مرة في ثوب جديد.

<<  <   >  >>