للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الصنف الثالث: من يجوز لهم الاستفتاء

١٨٢- ويجوز الاستفتاء لغير المجتهد فيما لا تلزمه معرفته من أحكام الشرع، كالعامي الذي لا يجب عليه الحج، فلا يلزمه أن يعرف أحكامه، وبالتالي لا يجب عليه أن يسأل عن هذه الأحكام وإن كان يجوز له أن يسأله عنها؛ لأنَّ معرفة أحكام الشرع والاستزادة من هذه المعرفة من الأمور المندوبة في حق كل مسلم، وحيث كان الأمر مندوبًا فجوازه أولى.

١٨٣- ولكن هل يجوز الاستفتاء لغير المجتهد فيما لا يلزمه معرفته فيما لم يقع عليه من الحوادث والنوازل؟ للعلماء قولان:

القول الأول: كراهة ذلك، وهذا هو المنقول عن الإمام مالك، فقد كان -رحمه الله تعالى- يكره السؤال عن حكم ما لم يقع، ولهذا كان بعض تلامذته إذا أراد معرفة حكم مسألة لم تقع دفع إلى الإمام مالك من يسأله عنها كأنَّها مسألة واقعة، وتعليل هذه الكراهة عند بعض العلماء هو أنَّ الإفتاء في أمور الدين شيء خطير ومسئولية كبيرة؛ لأنَّ الإفتاء في أمور الدين في حقيقته إخبار عن الشرع وحكمه، وهذا لا يسوغ إلّا بعد بذل الجهد المستطاع، فإذا قصر المجتهد في ذلك تعرَّض للمسئولية، وما دامت الواقعة لم تقع فلا حاجة ولا ضرورة للتعرُّض للإفتاء وما ينطوي عليه من مسئولية، بل إنَّ السلامة والاحتياط في الدين يوجبان الإعراض عن مثل هذا الإفتاء، كما أنَّ اجتهاد المجتهد قد يتغير، فلا حاجة للتسرع في الإفتاء والحادثة التي لم تقع بعد، فقد يتغير اجتهاد المجتهد ثم تقع الحادثة ولا يستطيع المجتهد إخبار المستفتي عن اجتهاده الجديد، ولهذا كله فيحسن بالمفتي أن يعرض عن الإفتاء عمَّا لم يقع بعد، كما يحسن بالعاميّ أن يستفتي عمَّا يحتاجه وعمَّا يقع له فعلًا، ويدع ما سوى ذلك مِمَّا لم يقع بعد.

١٨٤- القول الثاني: عدم كراهيته السؤال عمَّا لم يقع بعد إذا كان غرض السائل معرفة الحكم مسبقًا لاحتمال وقوعها، وهذا ما نرجِّحه؛ إذ لا ضرر فيه، بل فيه احتياط لما يحتمل وقوعه؛ إذ قد تقع الحادثة ولا يتيسَّر لصاحبها الوصول إلى من يستفتيه فيها، فإذا حرص على معرفة حكمها قبل وقوعها كان حرصه في محله، وعلى المفتي أن يجيبه؛ لأنَّ كليهما محسن غير مسيء، السائل في حرصه على معرفة الحكم،

<<  <   >  >>