الإفتاء للقاضي في مسائل الأحكام التي ينظرها مخافة أن يجبن عن الرجوع عمَّا أفتى به إذا ترجَّح عنده وقت المحاكمة ضد ما أفتى به، قال القاضي شريح: أنا أقضي لكم ولا أفتي، ولكنَّ للقاضي أن يفتي في مسائل العبادات كالصلاة والصيام، وقال الحنفية: للقاضي أن يفتي من لم يخاصم إليه، ولا يفتي أحد الخصمين فيما خوصِمَ إليه.
وقال بعض الفقهاء: للقاضي أن يفتي ما دام أهلًا للإفتاء، ولم يقيدوا هذا الجواز بشيء.
٢٣٦- والراجِح عندي هو القول الأوّل، ولكن بشرط أن يتعيِّن عليه الإفتاء، فإن تعيِّنَ عليه الإفتاء فعليه أن يفتي وإن كان قاضيًا، ولو في مسألة ينظر فيها قضاءً، وإن كان السائل أحد الخصوم؛ لأن المستفتي إذا علم أن الحق لخصمه فقد يترك المخاصمة ويسلّم الحق له، ولا خوف من هذا الإفتاء؛ لأن المفتي يبيّن الحكم على فرض ثبوت الوقائع عند المستفتي، أمّا القاضي فإنه وإن كان يطبِّق نفس الحكم الذي يفتي به، ولكن بشرط أن يثبت الوقائع أمامه بالطرق الشرعية، فإذا عجز صاحب الحق عن إثبات حقِّه أمام القاضي فإنَّ القاضي لا يحكم له به على خصمه، وإن كان يفتي له به على سبيل الفتوى.
التهيب من الإفتهاء:
٢٣٧- الإفتاء وإن كان تبليغًا لشرع الله وقيامًا بواجب ديني، إلّا أن صاحبه معرَّض للخطأ، ومن هنا كان السلف الصالح يتهيبون من الإفتاء مع صلاحيتهم له، ويود كل واحد منهم أن يقوم غيره به، بل وكان كل واحد منهم أو أكثرهم يحيل الإفتاء إلى غيره ليكفيه مؤنته ويجنبه خطره، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية أخرى: ما منهم من يحدِّث بحديث إلّا ودَّ أنَّ أخاه كفاه إياه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلذا ودَّ أنَّ أخاه كفاه الفتيا. وقال الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى: لولا الخوف من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ وعليَّ الوزر.
الجرأة على الإفتاء:
٢٣٨- وإذا كان التهيّب من الإفتاء مسلكًا حميدًا عرف به السلف الصالح، فإن