للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الجرأة على الإفتاء وجدت أيضًا في السلف الصالح، ولهذا كان بعضهم كثير الفتيا، ولا تتأتى الكثرة في الفتيا مع التهيّب من الإفتاء عادة، فكيف نوفِّق بين التهيب من الإفتاء -وهو مسلك حميد، والجرأة عليه، وقد وجد المسلكان في السلف الصالح دون نكير؟

التحقيق في المسألة أنَّ التهيب من الإفتاء قد يكون سببه كثيرة المفتين وعدم تعيين الإفتاء على المسئول، وهذا ما كان واقعًا وغالبًا في السلف الصالح، أمَّا الجرأة على الإفتاء فقد يكون سببها قلة العلم، كما قد يكون سببها سعة العلم، وابتلاء صاحبه بكثرة السائلين. أمَّا السبب الأول للجرأة، وهو قلة العلم؛ حيث يندفع من قلَّ عمله إلى الجواب عن كل مسألةٍ مخافةَ أن يُتَّهَم بالجهل، فهذا -ولله الحمد- لم يقع في السلف الصالح، أمَّا السبب الثاني للجرأة وهو سعة العلم وابتلاء المسئول بكثرة السائلين، فهذا قد وقع في السلف الصالح، ولهذا عُرِف من كثرت فتواه، وبسبب هذة الكثرة عرف بالجرأة على الإفتاء، وهذه بلا شكٍّ جرأة محمودة غير مذمومة، ولهذا كان ابن عباس -رضي الله عنهما- من أوسع الصحابة إفتاءً، وجمعت فتواه في عشرين سفرًا، وكان سعيد بن المسيب في التابعين واسع الفتيا، وكانوا يسمّونه سعيد بن المسيب الجريء.

الامتناع عن الإفتاء:

٢٣٩- وقد يكون الشخص أهلًا للإفتاء غير متهيِّب منه، ولكن يرى أن يوجد ما يدعوه إلى الامتناع عن الإفتاء، فيجوز له ذلك الامتناع، ومن هذه الحالات:

أ- قد يسأل المستفتي عن أمر شرعي وتدلّ القرائن للمفتي المتيقِّظ أنَّ مراد المستفتي التوصُّل بالفتوى إلى غرض فاسد.

ب- قد يسأل العاميّ عن مسألة عويصة لا يستطيع إدراكها، وليس هي من المسائل التي يلزمه معرفة حكمها، فيمتنع المفتي عن الإجابة لئلَّا يوقعه في الحيرة والفهم الفاسد.

ج- إذا كان موضوع الاستفتاء حادثة لم تقع بعد، فيمتنع المفتي عن الإجابة اتباعًا لمسلك بعض السلف في الامتناع عن الإفتاء فيما لم يقع بعد، مخافة أن يتبدَّل اجتهاده عند وقوع الحادثة.

د- إذا كان المفتي في حالة يخشى فيها عليه من عدم التثبت والتأمّل في موضوع

<<  <   >  >>