٥٧٢- وإذ قد بيَّنَّا الكبر وأسبابه وبعض عواقبه وآثاره، ظهرت لنا حقيقة التواضع، فهو ضد التكبُّر، وهو ثمرة المعرفة بالله وبالنفس، فلا يمكن أبدًا أن يتكبَّر ولا يتواضع إنسان عرف ربه وعرف قدر نفسه، وعلى هذا فإذا كان المتكبِّر جاهلًا بربه، فالمتواضع عارف بربه، وإذا كان المتكبر محتقرًا غيره يراهم كالذباب وكالعبيد، فإن المتواضع يفقه جيدًا قول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه:"لا يحتقرَنَّ أحدٌ أحدًا من المسلمين، فإن صغير المسلمين عند الله كبير"، وإذا كان المتكبر يستنكف عن مجالسة الصالحين والفقراء والضعفاء بالرغم من أنَّ أحدهم يعدل ملء الأرض من أمثاله، فإن المتواضع يفقه جيدًا معنى قوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ، وقد قال المفسرون في أسباب نزولها: إنَّ قريشًا قالت للرسول -صلى الله عليه وسلم: إنَّا لا نرضى أن نكون أتباعًا لهؤلاء من ضعفاء المسلمين مثل صهيب وعمار وبلال وخبَّاب، فاطردهم عنك ولا تبقهم في مجلسك إذا دخلنا عليك، فإذا فرغنا وخرجنا فأدخلهم إن شئت، فأنزل تعالى هذه الآية، وأتبعها بآية عن أولئك المتكبرين المتعجرفين الذين طلبوا طرد الضعفاء من مجلس رسول الله، فقال تعالى عنهم:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ١، ويفقه المتواضع جيدًا معنى قول الله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وإذا كان المتكبر يجحد الحق ويرده ولا يذعن له، فإن المسلم المتواضع يفقه جيدًا معنى قول العارف المتواضع الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- وقد سئل عن التواضع فقال: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.
١ شمائل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن كثير، ص١٠٣، ١٠٤.