٥٧٣- والداعي إلى الله أحوج من غيره إلى خلق التواضع، فهو يخالِط الناس ويدعوهم إلى الحق وإلى أخلاق الإسلام، فكيف يكون عاريًا من التواضع وهو من ركائز أخلاق الإسلام؟ ثم إنَّ من طبيعة الناس التي جبلهم الله عليها أنَّهم لا يقبلون قول من يستطيل عليهم ويحتقرهم ويستصغرهم ويتكبَّر عليهم، وإن كان ما يقوله حقًّا وصدقًا، هكذا جُبِلَت طبائع الناس، فإنهم ينفرون عن المتكبِّر ويغلقون قلوبهم دون كلامه ووعظه وإرشاده، فلا يصل إليه من قوله شيء، بل قد يكون ذلك سببًا إلى كرههم الحق منه ومن غيره، فعلى الداعي أن يفقه هذا الأمر جيدًا، وليتق الله ربه ولا يكون سببًا لنفرة الناس من الدعوة إلى الله، ونزيد هنا شيئًا آخر له علاقة بالموضوع، وله أهميته البالغة، ذلك أنَّ من طبائع الناس أنَّهم لا يحبون من يكثِرُ الحديث عن نفسه، ويكثر الثناء عليها، ويكثر من قول: أنا أنا، ولهذا فعلى الداعي أن يحذر ذلك وأن لا يدَّعي شيئًا يدل على تعاليه، كأن ينسب إلى نفسه المزيد من العلم أو الفصاحة أو المعرفة، إنَّ على الداعي أن يعرف أن جميع ما عنده هو محض فضل الله عليه، فليتحدَّث إلى الناس وهو بهذا اليقين وبهذا الشعور يتحدث إليهم بفضل الله لا بفضل نفسه، فإذا عرف الناس منه ذلك فتحوا له قلوبهم، أو على الأقل لم يغلقوها دون كلامه، فيقع فيها من معانيه الطيبة النافعة ما يشاء الله وقوعه، والله المستعان.
٥٧٤- ومن التواضع العظيم الذي قد يغفل عنه الداعي وهو مهم وضروري طاعة من أمره الشرع بطاعته، كالأمير ومن يتولى شئونه أو تعليمه، وأن لا يستنكف عن هذه الطاعة، ولا يحس منها بغضاضة، ولا يمنعه منها كِبْرٌ خفي في نفسه، فيرفضها ويستثقلها، أو يتهرب منها بتأويلاتٍ فاسدة، هي في حقيقتها من إيحاءات الشيطان، كأن يقول: هذا الأمير أو المعلم غير صالح ولا كفء أو صغيرًا، أو أنا أعلم منه وأكفأ، أو هذا المعلم لا يصلح للتعليم ونحو ذلك، وليتذكَّر جيدًا تأمير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد وكان شابًّ على جيش كان فيه سادات المهاجرين والأنصار ومشايخهم وكبارهم، قال صاحب "إمتاع الأسماع" في هذه الحادثة: "ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر- أسامة بن زيد، قال: يا أسامة، سِرْ على اسم الله وبركته حتى