للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مكة قبل القرن الخامس الميلادي "محطة للقوافل التي كانت تمر بها وهي راجعة من جنوب الجزيرة تحمل بضائع الهند واليمن إلى سوريا وفلسطين ومصر، فأصبحت في أواخر الجيل السادس مدينة تجارية غنية تمد بما كان يأتيها من البضائع المحلية والأجنبية أكثر سكان الحجاز وأسواقه"١.

وقد سيطر على أهل مكة روح تجاري نشط "فاشتعلت في نفس كل منهم حمَّى تدفعه للعمل والمال والمضاربات التجارية، من التاجر ذي الأريكة الخشبية في الهواء الطلق، إلى صاحب الدكان الصغير، إلى رجل الأعمال الكبير صاحب الكتبة الكثيرين، الذي تزدان دفاتر حساباته الجارية بالأختام والكتابات الحاذقة"٢، وبلغ من سيطرة هذا الروح التجاري أن كان من ألقاب الشرف في مكة لقب "تاجر"، ذلك اللقب الذي كان يخول لصاحبه أن يشارك في السلطان السياسي٣.

وقد أحدث هذا النشاط التجاري نوعا من الاختلال في التوازن الاقتصادي، نشأت عنه طبقة من الصعاليك المعوزين ممن تخلفوا عن القافلة، ونحاهم التيار التجاري الجارف جانبا، حيث يركد الماء، ويتراكم الغثاء. ويرى بعض الباحثين أن عدد أفراد هذه الطبقة في مكة كان كبيرا جدا بالنسبة إلى عدد أصحاب الثروة فيها، وأنهم كانوا في حالة سيئة "لا يملكون شيئا حتى أنفسهم؛ لأن حق التشريع كان محصورا في أيدي الطبقة العليا، فكان أصحابها يسنون من الشرائع ما كان يوافق مصلحتهم، ولما لم يكن لأصحاب هذه الطبقة زاجر من أنفسهم، ولا رادع من ضمائرهم يردعهم عن استثمار أتعاب الصعاليك وامتهانهم، ويوقفهم عند حد معلوم من القساوة، كانت حياة الصعاليك بينهم عرضة دائمة للأخطار، وسلسلة يأس وعذاب، فلا قانون يحميهم، ولا شريعة ترق لحالهم، وتحاول أن تنشلهم من هاوية الموت الاجتماعي والرق


١ بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ ١٣، ١٤.
٢ dermenghem; the life of mahomet, p. ٢٩.
٣ lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. ١٦٥ = ٢٦١.

<<  <   >  >>