للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٩- آثار من الصنعة المتأنية:

إذا كان لون التشبيه هو أقوى الألوان التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في صنعتهم الفنية، وإذا كان هذا اللون يتفق والسرعة الفنية في شعرهم، فإننا لا نعدم في شعر الصعاليك آثارا من الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية.

ولننظر في هذه القطعة من شعر تأبط شرا التي سجل فيها نجاته من لحيان الذي حاصروه وهو في غار لهم يشتار عسلا، وهي قطعة يبدو أن الشاعر قد فرغ فيها لصنعته الفنية متمهلا متأنيا، والدليل الفني على هذا أنه يبدؤها١ أو يختمها٢ بأبيات من الحكمة بيدو عليها أثر التفكير العقلي الهادئ الذي وعى التجربة ثم فلسفتها، أما الدليل الواقعي فواضح من أن الشاعر قد نظم هذه القطعة بعد أن نجا من أعدائه، وعاد إلى قومه، واطمأنت نفسه، ثم فرغ لفنه يسجل فيه قصته وفلسفته لها.

فحين ننظر في هذه القطعة نلاحظ أن الشاعر يستخدم في البيت الأول٣ لونا من ألوان المقابلة المعنوية الدقيقة الصنعة بين قوله "وقد جد جده" وقوله "وهو مدبر" إذ أن التعبير الأول يساوي قوله "وهو مقبل" أو -كما يقول البلاغيون في تعبيراتهم إن الجد في الأمر مسبب عن الإقبال عليه.

ثم انظر إلى هذه الألوان الفنية الكثيرة التي حشدها الشاعر في هذه الأبيات الثلاثة المتتالية:

فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر

أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي، ويومي ضيق الجحر معور

هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم، والقتل بالحر أجدر

انظر كيف جسم الدهر فجعله جبارا لا يزال يقرع المرء بنوائبه حتى يصيره مجربا بصيرا حازما، وكيف مثل براعة المرء في الاحتيال إذا أخذ عليه طريق نفذ إلى آخر بتلك الصورة الحسية، صورة المرء "إذا سد منه منخر جاش منخر" وكيف مثل إشراقه على الهلاك بفراغ وطابه، وكيف جعل يومه الحرج ضيق الجحر معورا، ثم كيف ختم هذه الألوان الفنية المحتشدة بهذا التذييل الذي يجري مجرى المثل، كما يقول البلاغيون في اصطلاحاتهم في باب الإطناب. ثم يمضي الشاعر في أبياته مستخدما لون المطابقة مرة أخرى بين "مورد ومصدر"، ولكنها مطابقة لفظية مألوفة في الأساليب الجاهلية


١ في رواية الحماسة ١/ ٣٨.
٢ في رواية الأغاني ١٨/ ٢١٥.
٣ فضلنا ترتيب الحماسة على ترتيب الأغاني لأنه أقرب إلى طبيعة فكرة القصيدة.

<<  <   >  >>