للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

حتى لتوشك أن تكون روسما١ يطبعه الشاعر في كل مناسبة يحتاج فيها إليه. ولكنه يعود إلى صنعته الفنية الدقيقة فإذا هو يفرش صدره لخطته التي استقر عليها، وإذا الموت ينظر إليه خزيان من عجزه عنه، وإذا القبائل التي يفارقها تصفر أسفا على إفلاته منها. وهكذا يفرغ الشاعر من رسم لوحته التي استخدم في تلوينها أكثر ما استخدم ذلك اللون العميق من ألوان الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية، وهو الاستعارة.

وهذه الآثار من الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية تتردد من حين إلى حين في نماذج شعر الصعاليك. فالمنية في ذهن أبي الطمحان ناقة يسوقها إلى الإنسان دليل بارع لا يضل، ولكن أبا الطمحان لا يرسم لوحته بهذه الألوان الواضحة، وإنما يعتمد على "التظليل" في إخفاء بعض جوانبها إخفاء فنيا رائعا، فإذا المشبه به قد أخفي وراء هذه الظلال الفنية الجميلة، ولكن الشاعر يشير إليه ببعض خصائصه، أو -كما يقول البلاغيون- "بشيء من لوازمه" وإذا اللوحة التي يرسمها لفكرته تعتمد على الظل أكثر مما تعتمد على النور -كما يقول أصحاب الرسم- أو تعتمد على الاستعارة المكنية -كما يقول أصحاب البلاغة:

لو كنت في ريمان تحرس بابه ... أراجيل أحبوش وأغضف آلف

إذن لأتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد بأمري قائف٢

وصديق تأبط شرا إذا هز سيفه في عظام أعدائه ضحك الموت سرورا بما حصل عليه من أرواح، حتى لتبرق أسنانه من شدة ضحكه:

إذا هزه في عظم قرن تهلك ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك٣

والعملية الفنية هنا عملية مركبة معقدة تقوم على استعارتين: استعارة في "تهلك" تقوم على تشبيه بريق الأسنان عند الضحك بلمعان البرق، واستعارة


١ الروسم: الطابع يطبع به "انظر القاموس المحيط: مادة -رسم-".
٢ الأغاني ١١/ ١٣٢ "بولاق".
٣ حماسة أبي تمام ١/ ٤٩.

<<  <   >  >>