للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٨- السرعة الفنية:

وإذ كانت حياة الشعراء الصعاليك قلقة مضطربة لا تكاد تعرف للاستقرار أو الطمأنينة طعما، فهم دائما مشغولون بكفاحهم من أجل العيش، ذلك الكفاح الدامي المرير الذي فرغوا له فراغا تاما، والذي وهبوا له حياتهم، وجعلوه مذهبا لهم يعيشون له ويموتون في سبيله، وإذ كان شعر الصعاليك صورة صادقة لحياتهم، كانت النتيجة الفنية لهذا أن اتسم شعرهم بالسرعة الفنية، فالعمل الفني عند الشعراء الصعاليك أشبه الأشياء بشوط من أشواط عدوهم، يندفعون فيه ولا يتوقفون حتى يصلوا إلى غايتهم. وليس من البعيد أن تكون هذه السرعة الفنية التي وسمت شعرهم صدى نفسيا لتلك السرعة التي اعتمدت عليها حياتهم، منبعثا من أعماق "اللاشعور". ولست أدري فقد يؤيد هذا ما نلاحظه من أن الصنعة الفنية في شعر عروة أبطأ وأشد أناة وإحكاما منها في شعر صعاليك السراة، ومن المعروف أن عروة لم يكن من العدائين وإنما الصعاليك العداءون -كما رأينا من قبل- هم أولئك الذين كانوا ينزلون منطقة السراة بين مكة واليمن١.

وقد رأينا من مظاهر هذه السرعة الفنية انتشار المقطوعات والقصائد القصيرة في شعرهم، وتخلصهم من المقدمات الطللية، ومن التصريع، وهي مظاهر ترجع إلى الشكل العام أو البناء الخارجي للعمل الفني.

وحين نمضي إلى داخل البناء الفني لشعر الصعاليك نجد أن أقوى مظاهر هذه السرعة "خفوت الصنعة الفنية" في شعرهم بحيث لا يكاد الناظر فيه يلمح أثرا من آثار التجويد الفني المتمهل الواضح الأناة، وإنما هو حديث سريع يتدفق من نفس الشاعر دون أن يحرص على أن يتمهل هنا أو هناك لينمقه أو يوشيه بتلك الألوان الفنية المختلفة التي يحرص عليها الشعراء المحترفون. والواقع أن حياة الشاعر الصعلوك لم تكن بالتي تتيح له من الفراغ والاطمئنان ما يجعله يتمهل في عمله الفني أو يتأنى فيه. وهل نستطيع مثلا أن نتصور أن السليك وقد مضى للغارة مع صعلوكين التقى بهما في طريقه، ثم مضى وحده ليستكشف لهما خبر نار لاحت لهم، حتى إذا ما بلغها ووجد أن ليس عندها سوى عبيد وإماء يسهل التغلب عليهم، رفع عقيرته متغنيا بهذين البيتين ليعلم صاحبيه أن الفرصة سانحة:

يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... إلا عبيد وآم بين أذواد

أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادي٢

هل نستطيع أن نتصور أن السليك في هذا الجو يستطيع أن يفرغ


١ الباب الأول: الفصل الثاني "التفسير الجغرافي" ص٨٦.
٢ ابن قتيبة: الشعر والشعراء / ٢١٥. والأغاني ١٨/ ١٣٤. وانظر البيت الثاني في لسان العرب: مادة "روح".

<<  <   >  >>