لفنه مجودا منمقا موشيا؟ أظن أن الشاعر لم يكن يبغي من وراء هذين البيتين سوى أن يسمعهما صاحباه فيفهما عنه ما يريد، فالصنعة الفنية لم تكن هدفا يحرص عليه، وإنما كل حرصه على أن يبلغ صاحبيه هذه الرسالة، أو بتعبير أدق هذه "البرقية" في أسرع وقت حتى لا تفلت منهم الفرصة.
ومثل السليك كان أكثر الصعاليك، وخاصة العدائين منهم، لم تتح لهم حياة الكفاح وما تلقيه على كواهلهم من تبعات جسام فراغا لفنهم يجودونه وينمقونه ويخرجونه إخراجا متأنيا متمهلا.
ومن هنا نستطيع أن نقول أن الشعر عند الصعاليك لم يكن "حرفة" تقصد لذاتها، ويفرغ صاحبها لتجويدها، والوصول بها إلى المثل الأعلى الذي يستطيع معه أن يدخل حلبة المبارة الفنية ليقول لغيره من الشعراء: هأنذا، وإنما كان الشعر عندهم وسيلة يسجلون بها مفاخرهم، أو ينفسون بها عما تضيق به صدورهم من تلك العقد النفسية" التي تمتلئ بها أعماق نفوسهم، أو يدعون بها إلى مذهبهم في الحياة لعلهم يجدون من يؤمن بها وينضم إليهم، أما أن يرضى عنهم المجتمع الفني الذي يعيشون فيه فهذا أمر لم يكن في حسابهم، فهم يعرفون أنهم يعيشون في مجتمعهم شذاذا متمردين ليس بينهم وبينه إلا صلة الصراع، وهم لهذا يدركون أن مجتمعهم لن يرضى عن فنهم كما لم يرض عنهم، ولن يحرص عليه كما لم يحرص عليهم، ويعرفون أن القبائل لا تحرص إلا على شعرائها، ولا تشغل إلا بهم، ولا تقيم وزنا إلا لهم، ولا تخص بالتقدير والإعجاب إلا شعرهم. وهكذا انصرف الشعراء الصعاليك عن احتراف الشعر، ولو أنهم فكروا في احترافه لاتخذوا منه وسيلة يتكسبون بها كما يتكسب بها غيرهم من الشعراء، ولضمنوا بهذا لأنفسهم حياة هادئة مستقرة مطمئنة كالتي كان يحياها غيرهم من الشعراء المحترفين.
ولعل "التشبيه" أقوى الألوان الفنية التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في شعرهم، وهو لون يتفق تماما مع هذه السرعة الفنية التي لاحظناها؛ إذ إن الصنعة الفنية في التشبيه صنعة سريعة لا تتجاوز عقد موازنة بين أمرين يشتركان في معنى، وهو -من هذه الناحية- غير الاستعارة مثلا التي تعتمد على لون