من الصنعة الفنية العميقة المتأنية. وفي صنيع القدماء من علماء البلاغة ما يشعر بهذا، فقد جعلوا التشبية المرحلة الأولى التي تبنى عليها الاستعارة، ووجه بنائها على التشبيه -كما يقولون- أن استعارة اللفظ إنما تكون بعد المبالغة في التشبيه، وإدخال المشبة في جنس المشبه به ادعاء. ومن هنا دار بينهم كلام طويل حول جعله بابا مستقلا من أبواب البيان مع أنه مقدمة لها تتوقف عليه، وهل توقف بعض الأبواب على بعض يوجب كون المتوقف عليه مقدمة للفن أو لا يوجب١. ومعنى هذا بتعبير أيسر أن العملية الفنية في التشبيه عملية بسيطة من درجة واحدة، ولكنها في الاستعارة عملية مركبة من درجتين.
وعلى كل حال، وبدون الوقوف عند هذه التعليلات العقلية، فالأمر الذي لا شك فيه أن الصنعة الفنية في التشبيه صنعة سريعة لا تحتاج إلى أكثر من وضع الأمرين المراد عقد الموازنة التشبيهية بينهما في معرض واحد حتى يتضح وجه الشبه بينهما.
وحين ننظر في شعر الصعاليك لنتين كيف استخدموا هذا اللون الفني في صناعة نماذجهم فإن أول ما نقف عنده تلك العناصر التي استخدموها في تأليف هذا اللون، أو بعبارة أخرى نستأذن أصحاب الرسم في استعارتها منهم "صندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك".
وصندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك صندوق متعدد العناصر، ولكنها في مجموعها عناصر قاتمة قليلة الإشراق والتألق، مستمدة من تلك البيئة البدوية القاحلة التي يعيشون فيها، ومتأثرة بتلك الحياة الخشنة القاسية التي يحبونها، ومتسمة بتلك الواقعية التي تسيطر على تفكيرهم ومزاجهم.
والحق أن هذه العناصر أكثر من أن تحصى؛ لأنها -من ناحية- مستمدة من واقع الحياة بكل ما فيه من مظاهر متعددة، ولأنها -من ناحية أخرى- منتشرة في شعرهم انتشارا واسعا. ولكنا مع ذلك سنحاول أن نردها إلى
١ انطر شروح التخليص عند قول صاحب التخليص في مقدمة علم البيان "ثم منه ما يبنى على التشبيه فتعين التعرض له" ٣/ ٢٨٩ وما بعدها "الطبعة الثانية بمطبعة السعادة بمصر سنة ١٣٤٣هـ".