للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودارت بينهم معركة انتهت بانتصار الصعاليك، فإذا ما انتهت المعركة فرغ الشنفرى إلى فنه يحدثنا عنها حديثا رائعا فيه دقة وتفصيل، يبدأ منذ أن أعلن امرأته أنه خارج لها، غير مبال بحياته أو حريص عليها، وفيم المبالاة أو الحرص وهو يعلم أن أجله لا بد آت في يوم من الأيام:

دعيني وقولي بعد ما شئت إنني ... سيغدَى بنعشي مرة فأغيب

وهو لا يطيل في هذا الحديث لأنه في لهفة إلى أن يدرك رفاقه، والموقف لا يحتمل ريثا ولا إبطاء، فليترك امرأته بعد هذا القول الفاصل "دعيني وقولي بعد ما شئت"، وبعد هذه الحجة القاطعة "إنني سيغدى بنعشي مرة فأغيب"، وليسرع إلى رفاقه في لهفة شديدة، يمثلها انتقاله السريع من هذا الحديث إلى حديثه عن خروجهم في مغامرتهم. وهو يذكر لنا أنهم كانوا ثمانية، وأنهم خرجوا جميعا مسرعين، لم يعهدوا إلى أحد بالقيام على شئونهم، ولم يوصوا أحد بأهلهم، وهم جميعا فتيان كأنهم الذئاب، وجوههم مشرقة لا تبدو عليها مظاهر جزع أو خوف:

خرجنا فلم نعهد وقلت وصاتنا ... ثمانية ما بعدها متعتب

سراحين فتيان كأن وجوههم ... مصابيح أو لون الماء مذهب١

ثم هاهم أولاء في طريقهم إلى هدفهم مسرعين، لا يعرجون على شيء حتى على الماء، على شدة حاجتهم إليه، وعلى علمهم أن الزاد ظن مغيب، ثم هاهم أولاء بعد ثلاثة أيام على أقدامهم يصلون إلى هدفهم يتقدمهم دليل خفيف فارع شجاع:

نمر برهو الماء صفحا وقد طوت ... ثمائلنا، والزاد ظن مغيب

ثلاثا على الأقدام حتى سما بنا ... على العوص شعشاع من القوم محرب٢


١ الذي هنا رواية الأغاني، وفي الديوان "مستعتب" مكان "متعتب". والسراحين: الذئاب.
٢ الرهو: مستنقع الماء. الثمائل جمع ثميلة وهي سقاء الماء. الشعشاع: الطويل الخفيف. المحرب: الشديد الحرب الشجاع.

<<  <   >  >>