للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الشارد في صحرائه، ولكنا نقف أمام ظاهرتين طريفتين تستحقان التسجيل:

أولاهما: رواسب الصعلكة في شعر أبي خراش الإسلامي.

والأخرى: تأثير الإسلام فيه.

فما زالت صورة الفقراء المهتلكين الجياع ذوي الثياب البالية، والضباع التي تنتظر أجساد القتلى في اشتهاء ظامئ، والثأر الذي يملأ النفوس حقدا وغليلا، وذكريات الماضي الذي لا ينساه أبو خراش، تتردد في رثائه لزهير، وبخاصة في لاميتيه١.

ومع هذه الصورة نعثر على صورة أخرى لتلك الحياة التي تغيرت ظروفها نتيجة لظهور الإسلام، فقد أحاطت برقاب هؤلاء الصعاليك سلاسل الدين الجديد، فلم يعودوا قادرين على أن يمضوا في حياتهم كما كانوا في الجاهلية، وأصبح مقياس الأمور في هذه الحياة الإسلامية العدل والحق، أما الظلم والباطل فقد مضى عهدها الطائش الجاهل، وأصبح فتيان الصعاليك وقد تفرقت جماعاتهم كأنما فرق بينهم الموت:

فليس كعهد الديار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

فأصبح إخوان الصفاء كأنما ... أهال عليهم جانب التراب هائل٢

وأشد ما يملأ نفس أبي خراش غيظا وغليلا أنه أصبح عاجزا عن أن يثأر لصاحبه من قاتله، وهو من قريش، أولئك الذين صارت الإمارة والملك فيهم، ولولا ذلك ما كان ليخشاهم، ولكن ماذا يفعل سوى أن يظل طول عمره مغيظا محنقا عليهم حتى يُقتلوا بصاحبه:

فما كنت أخشى أن تنال دماءنا ... قريش ولما يُقتلوا بقتيل

وأبرح ما أمرتم وملكتم ... يد الدهر ما لم يُقتلوا بغليل٣


١ ديوان الهذليين ٢/ ١٤٨-١٥٠، ١٥٧.
٢ المصدر السابق/ ١٥٠.
٣ المصدر نفسه/ ١٥٧.

<<  <   >  >>