للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

صريعة؟ وهل تائية الشنفرى المفضلية -إذا أخرجنا منها مقدمتها الغزلية- إلا قصة غزوة من غزواته مع جماعة من رفاقه يقص فيها استعدادهم للغزوة، ثم خروجهم لها، ومضيهم في طريقهم إليها، ثم تربصهم بأعدائهم، وانتظارهم الفرصة المواتية، وما كانوا يفعلونه في هذه الفترة من الانتظار والتربص، ثم تحقيق أهدافهم التي كانوا يسعون إليها، ثم تعليق من الشاعر على هذه القصة؟ وهل بائية الأعلم١ إلا قصة نفسية دقيقة تبدأ مباشرة بمنظر الشاعر الصعلوك مع صاحب له وهما يفران من أعدائهما الذين يطاردونهما مطاردة عنيفة تستمر حتى ينتصف النهار حين يصل الصعلوكان إلى منطقة الأمان؟ وهي قصة وإن تكن أحداثها قليلة فإن أروع ما فيها ذلك التحليل النفسي الدقيق لنفسية الهارب المذعور والمطارد الطامع في إدراكه، وذلك التصوير النفسي الرائع لخوف الهارب المذعور من الموت وحرصه على الحياة حين يشتد من خلفه الخطر، ثم طمأنينه نفسه بعد نجاته وتذكره تلك "العقد النفسية" التي تدفع به إلى مثل هذه المآزق الخطرة: فقره، وهوان أسرته، وترف الأغنياء من حوله. والقصيدة، أو القصة، من هذه الناحية من الممكن أن تسلك في عداد القصص النفسية التي يعرفها العصر الحديث.

وهكذا نستطيع أن نمضي مع مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة فإذا نحن أمام مجموعة من الأقاصيص يصح أن نطلق عليها كما يفعل القصاص المحدثون "أقاصيص صعلكة" أو "مغامرات الصعاليك" أو "غزوات وقصص أخرى".

بل إن الأمر ليتجاوز هذه المجموعة إلى الشعر خارج دائرة الصعلكة، وبخاصة عند الهذليين في رثائهم، فقد اتخذ الهذليون فيه مذهبا قصصيا، عماده حيوان الصحراء الشارد في أرجائها، الممتنع فوق جبالها العالية، يضربون به المثل على أن الموت يدرك كل كائن حي مهما يكن بعده عن مواطن الخطر وامتناعه عليه. والصورة القصصية عندهم دائما حيوان آمن في سربه أو في معقله


١
لما رأيت القوم بالعليا ... ء دون قدى المناصب
"شرح أشعار الهذليين ١/ ٥٥-٦٠".

<<  <   >  >>