للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولعل هذا الإحساس الذي سيطر على نفس عروة بأن أمه أقل شرفا من أبيه هو الذي جعله ينسب كل ما يحسه من عار إلى تلك الصلة التي تربطه بأخواله النهديين١.

ومعنى هذا أن عروة قد وضع منذ نشأته الأولى بين شقي الرحى، فأبوه تتشاءم منه قبيلته، وأمه من قبيلة أقل شرفا.

وليس لدينا عن نشأة عروة الأولى سوى خبر واحد، ولكنه قوي الدلالة على تلك الظروف الأولى التي جعلته يشعر بالظلم شعورا قويا سيطر عليه في كل مراحل حياته بعد ذلك، كما أنه قوي الدلالة على قوة نفسه التي بدأت براعمها في الظهور منذ وقت مبكر. ففي الأخبار أنه كان له أخ أكبر منه وكان أبوه يؤثره عليه فيما يعطيه ويقربه، "فقيل له: أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضغفه؟ قال: أترون هذا الأصغر؟ لئن بقي مع ما أرى من شدة نفسه ليصبرن الأكبر عيالا عليه"٢.

ومعنى هذا أن عروة تفتحت عيناه في الحياة على صورة مختلة التوازن من صورها: صورة الأخ الأكبر الذي يؤثره أبوه مع غناه عنه، وإلى جانبها صورة الأخ الأصغر الذي يهمله أبوه مع ضعفه وحاجته إليه. أليست هذه الصورة هي التي شاهدها عروة بعد ذلك في المجتمع الذي يعيش فيه في مجال أوسع: الأغنياء الذين تؤثرهم الحياة بكل شيء مع غناهم، وإلى جانبهم الفقراء الذين تحرمهم الحياة من كل شيء مع شدة حاجتهم وضعفهم؟

وهكذا بدأت براعم فلسفة عروة الاجتماعية والاقتصادية في الظهور في هذه السن المبكرة.

وما إن تتقدم الأيام بعروة حتى تتفتح هذه البراعم عن فلسفة ناضجة، يؤمن بها كل الإيمان، ثم يأخذ في تنفيذها والدعوة إليها بكل قوة وحماسة.


١
وما بي من عار إخال علمته ... سوى أن أخوالي إذا نسبوا نهد
"ديوانه/ ١٥٧".
٢ الأغاني ٣/ ٨٨.

<<  <   >  >>