للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إنها صيحة الروح تحررت من إسار الغرائز بعد ما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائياً في ذات (بلال بن رباح).

كذلك كان المجتمع الإسلامي يحكمه هذا التغيير ذاته، إذ كان شأنه شأن (بلال)، لا يتحدث بلغة اللحم والدم، كما أن صوت العقل كان لا يزال صامتاً في المجتمع الوليد. فكل لغة هذا العصر كانت روحية المنطق، إذ هي بنت الروح أولاً وقبل كل شيء.

ذلكم هو الطور الأول من أطوار حضارة معينة، الطور الذي تروض فيه الغرائز وتلك في نظام خاص يكبح جماحها، ويقيد انطلاقها.

الروح في صوت بلال هي التي تتكلم، وتتحدى بلغتها اللحم والدم، وكأنما كان يتحدى هو أيضاً بسبابته المرفوعة طبيعة البشر، ويرفع بها في لحظة معينة مصير الدين الجديد.

والروح أيضاً هي التي كانت تتحدث بصوت (الزانية) حين أقبلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تعلن عن خطيئتها، وتطلب إقامة حد الزنا عليها. فهذه الوقائع جميعها تخرج عن معايير الطبيعة، وتدل على أن الغريزة قد كبتت، غير أنها ظلت محتفظة بنزوعها إلى التحرير. وهنا ينشب الصراع المحتدم بين هذا النزوع وسيطرة الروح.

وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع، ربيب الفكرة الدينية، طريق تطوره، وتكتمل شبكة علاقاته الداخلية، بقدر امتداد إشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشكلات المادية لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله.

وحتى تتفق تلك الحضارة مع المقاييس المستجدة تسلك منعطفاً جديداً، يتطابق مع (النهضة)، كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأوربية، ومع استيلاء الأمويين على الخلافة بالنسبة للدورة الإسلامية.

<<  <   >  >>