وفي الحالتين كلتيهما فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها عن عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد.
وطبيعي ألا تنطلق الغرائز دفعة واحدة، وإنما تتحرر بقدر ما يضعف سلطان الروح.
وكلما واصل التاريخ سيره، واصل التطور عمله في نفسية الفرد، وفي البناء الأخلاقي للمجتمع، الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع، ينكمش التحرز الأخلاقي في أفعال الفرد الخاصة شيئاً فشيئاً.
ولو استطعنا مراقبة هذه الظروف النفسية بوسيلة دقيقة، بغية تتبع نتائجها- كما هو الشأن في معامل الطبيعة- لأمكننا أن نلاحظ انخفاضاً في مستوى أخلاق المجتمع.
وبعبارة أخرى: نلاحظ نقصاً في الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية، وإن هذه الفكرة تتناقص دائماً، منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل.
فأوج الحضارة، وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها، يلتقي من وجهة نظر (علم العلل Ethiologie) مع بدء مرض اجتماعي معين لا يلفت انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع، لأن آثارها المحسة لا تزال بعيدة، وبهذا تواصل الغريزة- المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية- سعيها إلى الانطلاق والتحرر، وتستعيد الطبيعة سيطرتها على الفرد، وعلى المجتمع، شيئاً فشيئاً.
فإذا ما بلغ هذا التحرر تمامه، عادت الغرائز إلى سيطرتها على مصير الإنسان، وبدأ التطور الثالث من أطوار الحضارة، بظهور الغريزة التي تسفر